الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلف في كيفية ذلك الإسراء ، فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأقلون قالوا : إنه ما أسري إلا بروحه .

                                                                                                                                                                                                                                            حكي عن محمد بن جرير الطبري في تفسيره ، عن حذيفة أنه قال : ذلك رؤيا ، وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أسري بروحه ، وحكي هذا القول أيضا عن عائشة - رضي الله عنها - وعن معاوية - رضي الله عنه - .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : في إثبات الجواز العقلي .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : في الوقوع .

                                                                                                                                                                                                                                            أما المقام الأول : وهو إثبات الجواز العقلي ، فنقول : الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها . والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع ، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين :

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الأولى : في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع ، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع . وبتقدير أن يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع منمكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر ، فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان ؛ فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة . ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد ، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة من العرش إلى مكة ، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، وإنما نقول : المراد من نزول جبريل - عليه السلام - هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه [ ص: 119 ] الصلاة والسلام جسم ، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة ، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل ، وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : إن صاحبك يقول كذا وكذا ، فقال أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فهو صادق ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، فكلما ذكر شيئا ، قال أبو بكر : صدقت . فلما تمم الكلام قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله حقا ، فقال له الرسول : وأنا أشهد أنك الصديق حقا ، وحاصل الكلام أن أبا بكر - رضي الله عنه - كأنه قال : لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا ، فكيف أكذبه في هذا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ، ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس ، فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى ، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، أما الذين يقولون : إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة ، وأنه ليس بجسم ولا جسماني ، فهذا الإلزام غير وارد عليهم ، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة ؛ لأنهم أجسام لطيفة ، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر ، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني ، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة ، قال تعالى في صفة مسير سليمان عليه الصلاة والسلام : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) [ سبأ : 12] . بل نقول : الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة ، وذلك أيضا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ؛ بدليل قوله تعالى : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) [النمل : 40] . وإذا كان ممكنا في حق بعض الناس ، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السابع : أن من الناس من يقول : الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ، ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه ، فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة ، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 120 ] المقدمة الثانية : في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنعا ، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها ، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات ، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن ، فوجب كونه تعالى قادرا عليه ، وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب ، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات ، فانقلاب العصا ثعبانا تبلع سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت - أمر عجيب ! وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم ، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب ، وكذا القول في جميع المعجزات ، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات ، وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة ، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال ، فكذا ههنا ، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية