الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1952 2057 - حدثني أحمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سموا الله عليه وكلوه" . [5507 ، 7398 - فتح: 4 \ 294]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر فيه حديث : الرجل يجد الشيء في الصلاة ، وقوله : "لا ، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" . وقال ابن أبي حفصة ، عن الزهري : لا وضوء إلا فيما وجدت الريح أو سمعت الصوت.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث : إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا . فقال : "سموا الله عليه وكلوه" .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح : أثر حسان أخرجه أبو نعيم ، عن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن أحمد بن (عمرو) ، ثنا عبد الرحمن بن (عمرو) رسته ، ثنا زهير بن نعيم البابي قال : اجتمع يونس بن عبيد وحسان بن أبي [ ص: 42 ] سنان -يعني أبا عبد الله عابد أهل البصرة- فقال يونس : ما عالجت شيئا أشد علي من الورع . فقال حسان : لكن أنا ما عالجت شيئا أهون علي منه . قال يونس : كيف ؟ قال حسان : تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت . ثم روى بإسناده عن الحسن بن عبد العزيز الجروي قال : كتب إلي ضمرة ، عن عبد الله بن شوذب قال : قال حسان بن أبي سنان : ما أيسر الورع! إذا شككت في شيء فاتركه .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ولفظ : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" صح من حديث الحسن بن علي . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقال الحاكم : صحيح الإسناد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 43 ] وشاهده حديث أبي أمامة أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الإيمان ؟ قال : "إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن" قال : يا رسول الله : ما الإثم ؟ قال : "إذا حاك في صدرك شيء فدعه" . وروى محمد ابن أسلم في كتاب "الربا" من حديث ابن لهيعة ، عن يزيد ، عن سويد بن قيس ، عن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمن سأله عما يحل له : "ما أنكر قلبك فدعه" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 44 ] وحديث عقبة في المرأة السوداء انفرد به البخاري ; بل لم يخرج مسلم في "صحيحه" عن عقبة هذا شيئا . وللترمذي : فجاءت امرأة سوداء فقالت : إني أرضعتكما ، وهي كاذبة . فقال - صلى الله عليه وسلم - : "دعها عنك" وسلف في الرحلة في المسألة النازلة ، من كتاب العلم ، وسيأتي في النكاح ، وفي باب إذا شهد شاهد ، فقال آخرون : ما علمنا بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث : "احتجبي منه يا سودة" أخرجاه .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عدي تقدم في الطهارة في آخر باب : الماء الذي يغسل به شعر الإنسان ، وذكره هنا ; لأجل قوله : "إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" ، ويأتي في الصيد إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أنس في التمرة أخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وتعليق أبي هريرة الذي قال فيه : وقال همام عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أجد تمرة ساقطة على فراشي" وهذا سيأتي مسندا في اللقطة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 45 ] وأخرجه مسلم أيضا . وللحاكم مثله من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا نحوه ، وقال : صحيح الإسناد . وللترمذي عن عطية السعدي مرفوعا : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" ثم قال : حسن غريب . وحديث عبد الله بن زيد سلف في الطهارة . وابن أبي حفصة (خ . م . س) هو أبو سلمة محمد بن ميسرة البصري .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث : إن قوما يأتوننا بلحم . انفرد به البخاري من حديث عائشة .

                                                                                                                                                                                                                              وللدارقطني من حديث مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها : أن ناسا من أهل البادية يأتون بأجبان أو بلحمان لا ندري أسموا عليها أم لا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "سموا عليها ثم كلوا" ثم قال : تفرد به عبد الوهاب بن عطاء عن مالك متصلا ، وغيره يرويه عنه مرسلا لا يذكر عائشة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 46 ] وقال ابن عبد البر : لم يختلف عن مالك في إرساله فيما علمته ، وقد أسنده جماعة عن هشام .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها . وقال حوثرة بن محمد : ثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه عنها ، فذكرته . وساقه البخاري خوفا على الوسواس في المكاسب إذ لا فرق بينهما .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك : فـ (يريب) في أثر حسان بفتح الياء ، قال أبو العباس : يقال : رابني الشيء : إذا تبينت منه الريبة ، وأرابني : إذا لم أتبينها ، وقال غيره : أراب في نفسه وراب غيره . ورابني أفصح من أرابني .

                                                                                                                                                                                                                              وحسان هذا عابد ، روى عن الحسن ، وعنه ابن شوذب وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا في الباب قبل : الشبهات ما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني وتساوت فيه الأدلة ، ولم يغلب أحد الطرفين صاحبه . وبيان ذلك في حديث عقبة بن الحارث .

                                                                                                                                                                                                                              وذلك أن الجمهور ذهبوا إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - أفتاه بالتحرز من الشبهة وأمره [ ص: 47 ] بمجانبة الريبة ; خوفا من الإقدام على فرج يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام ; لأنه قد قام دليل للتحريم بقول المرأة : أنا أرضعتهما . لكن لم يكن قاطعا ولا قويا ; لإجماع العلماء أن شهادة امرأة واحدة لا يجوز في مثل ذلك . كذا ادعاه ابن بطال ، وقد أفسدناه في كتاب : العلم ، لكن أشار عليه الشارع بالأحوط ، يدل عليه أنه لما أخبره أعرض عنه ، فلو كان حراما لما أخبرها وأعرض عنه بل كان يجيبه بالتحريم ، فلما كرر عليه مرة بعد أخرى أجابه بالورع .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث : "احتجبي منه" وهو حديث عائشة فالكلام عليه من أوجه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : في الأسماء الواقعة فيه :

                                                                                                                                                                                                                              سعد بن أبي وقاص -مالك- بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة فارس الإسلام ، أسلم سابع سبعة ، مات سنة خمس وخمسين . وعبد بن (موسى) عامري من السادات . وزمعة -بفتح الميم وإسكانها وهو الأكثر - أمه عاتكة بنت الأخيف بن علقمة ، [ ص: 48 ] وهو أخو سودة -أم المؤمنين- لأبيها ، وأخوه لأبيه عبد الرحمن بن زمعة المبهم في هذا الحديث ، وأخوه لأمه : قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف ، وعتبة بن أبي وقاص ، ذكره العسكري في الصحابة ، وقال : كان أصاب دما في قريش ، وانتقل إلى المدينة قبل الهجرة ، ومات في الإسلام . وكذا قال أبو عمر . وجزم به الذهبي في "معجمه" فأخطأ .

                                                                                                                                                                                                                              ولم يذكره الجمهور في الصحابة . وذكره ابن منده فيهم . واحتج بوصيته إلى أخيه سعد بابن وليدة زمعة ، وأنكره أبو نعيم . قال أبو نعيم : وهو الذي شج وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسر رباعيته يوم أحد ، وما علمت له إسلاما ولم يذكره أحد من المتقدمين في الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 49 ] وقيل : إنه مات كافرا . وروى معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم أن عتبة لما كسر رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه فقال : "اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا" فما حال عليه الحول حتى مات كافرا .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الزبير أنه أصاب دما في قريش ، فانتقل إلى المدينة قبل الهجرة واتخذ بها منزلا ومالا ، ومات في الإسلام ، وأوصى لأخيه سعد ، وأمه هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة . وعتبة هذا أخو سعد لأبيه ، وكذلك خالدة أخت سعد لأبيه ، وأخوه لأبيه وأمه : عمر [ ص: 50 ] وعامر ، أمهم حمنة بنت سفيان بن أمية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : فيه : وصية الكافر إلى المسلم ; لأن عتبة كان كافرا ، وأن للمسلم قبولها . وذكر بعده أيضا أنه مات كافرا ، وبه جزم الدمياطي أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              والغلام المتنازع فيه اسمه عبد الرحمن -كما سلف- بن زمعة بن قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ، وأمه امرأة يمانية ، وله عقب بالمدينة ، وله ذكر في الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                              وهذه المخاصمة كانت عام الفتح كما أخرجه البخاري في الفرائض . وسودة إحدى أمهات المؤمنين ، تزوجها بعد خديجة ، وماتت في آخر خلافة معاوية .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : في ألفاظه : (الوليدة) : الجارية ، وجمعها : ولائد . قال ابن داود من أصحابنا : وهو اسم لغير أم الولد . وقال الجوهري : (الوليدة) : الصبية والأمة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("يا عبد بن زمعة") يجوز في ابن رفعه على النعت ونصبه على الموضع ، ويجوز لك في عبد ضم داله على الأصل وفتحه إتباعا [ ص: 51 ] لنون ابن . وزمعة بإسكان الميم على الأكثر كما مضى .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في معنى قوله : ("هو لك يا عبد") على قولين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : معناه : هو أخوك ، قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بعلمه لا باستلحاق عبد له ; لأن زمعة كان صهره - صلى الله عليه وسلم - ، وسودة ابنته كانت زوجته فيمكن أن يكون - صلى الله عليه وسلم - علم أن زمعة كان يمسها .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني : معناه : هو لك يا عبد ملكا ; لأنه ابن وليدة أبيك ، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد ، ولم يقر زمعة ولا شهد عليه ، والأصول تدفع قول ابنه فلم يبق إلا أنه عبد تبعا لأمه ، قاله ابن جرير .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي : معنى : "هو لك" أي : بيدك لا ملك له ، لكنك تمنع منه غيرك ، كما قال للملتقط في اللقطة : "هي لك" أي : بيدك تدفع عنها غيرك حتى يأتيها صاحبها ، لا أنها ملك لك . ولا يجوز أن يضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جعله ابنا لزمعة وأمر أخته أن تحتجب منه ، لكن لما كان لعبد شريك فيما ادعاه وهو سودة ، ولم يعلم منها تصديقه ألزم - صلى الله عليه وسلم - عبدا بما أقر به ، ولم يجعله حجة على سودة ، ولم يجعله أخاها ، وأمرها أن تحتجب منه .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : فيه نظر ، وسيأتي الجواب عن احتجابها منه ، وليس بمحال .

                                                                                                                                                                                                                              ويؤيد الأول رواية البخاري في المغازي : "هو لك ، هو أخوك يا عبد ابن زمعة" من أجل أنه ولد على فراشه . لكن في "مسند أحمد" و"سنن النسائي" : "ليس لك بأخ" . واختلف في تصحيحها ; [ ص: 52 ] فأعلها البيهقي والمنذري والمازري ، وأما الحاكم فاستدركها وصحح إسنادها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 53 ] وقال بعضهم الرواية فيه : "هو لك عبد" بإسقاط حرف النداء الذي هو ياء ، أي : هو وارثه ، فيرث هذا الولد وأمه . وهي غير صحيحة ، ثم على تقدير صحتها قد يكون المراد : يا عبد ، فحذف حرف النداء كقوله : يوسف أعرض عن هذا [يوسف : 29] .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("الولد للفراش") أي : لصاحب الفراش . وكذا أخرجه في الفرائض البخاري من حديث أبي هريرة وترجم عليه وعلى حديث عائشة : الولد للفراش حرة كانت أو أمة . والعاهر : الزاني . ومعنى له الحجر : الخيبة ولا حق له في الولد .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أوضحت شرح هذا الحديث في شرحي "للعمدة" فليراجع منه .

                                                                                                                                                                                                                              وانفرد أبو حنيفة فقال : لا تصير الأمة فراشا إلا إذا ولدت ولدا واستلحقه فما يأتي بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيه . ومقصود البخاري بإيراده هنا استعمال الورع في الأمر الثابت في ظاهر الشرع ، والأمر للاحتياط حيث أمرها بالاحتياط ورعا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (من شبهه) بفتح الشين والباء وبكسر الشين وسكون الباء .

                                                                                                                                                                                                                              وادعى الداودي أن هذا الحديث ليس من الباب في شيء ; لأنه يحكم [ ص: 54 ] فيه بالشبه وبقول القافة . وليس كما زعم بأنه تفسير للشبهات . واحتج لابن القاسم على عبد الملك بقوله : ("احتجبي") في قوله : إن الزاني لا ينكح ابنته . قالوا : فلو لم يراع الزاني ، لما أمرها أن تحتجب . وأجيب بأن ذلك من باب الستر ، وللرجل أن يمنع زوجته رؤية أخيها .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : روى الطحاوي من حديث عروة ، عن عكرمة ، عن عبد الله ابن زمعة أنه خاصمه رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ولد ولد على فراش أبيه ; فقال - صلى الله عليه وسلم - : "الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة" قال : والأول أولى لموافقة الجماعة ; ولأن عبد الله بن زمعة لم يعلم له حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى حديث الوليدة . وعبد الله بن زمعة -الذي روى عنه عروة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باستخلاف أبي بكر على الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 55 ] وحديث عاقر الناقة -ليس هو بابن زمعة أخي سودة ، إنما هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : ذكر ابن الجوزي : إذا مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره فادعاه ورثته لحق به ، إلا أنه لا يشارك مستلحقيه في ميراثهم إلا أن يستلحق قبل القسمة ، فإن كان أنكره فلا إلحاق . وكان سعد يقول : هو ابن أخي ، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية ، وكان عبد يقول : هو أخي ولد على فراشه ، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإسلام ، فقضى به - صلى الله عليه وسلم - إبطالا لحكم الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : يؤخذ من قوله : "احتجبي منه يا سودة" أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد والأوزاعي والثوري ، وهو قول لنا لأنه لما رأى الشبه بعتبة فأجراه مجرى النسب ، والأظهر عندنا وعن مالك وأبي ثور : لا ، والاحتجاب للتنزيه .

                                                                                                                                                                                                                              ويحتمل كما قال القرطبي أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق سودة . وكذلك قال في حفصة وعائشة في حق ابن أم مكتوم : "أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه" ، وقال لفاطمة بنت قيس :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 56 ] "انت قلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده" فأباح لها ما منعه لأزواجه .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : بل هما أم سلمة وميمونة ، لا حفصة وعائشة .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : قول عبد : (أخي) تمسك به الشافعي على أن الأخ يجوز أن يستلحق الوارث نسبا لمورثه بشرط حوزه للإرث ، إذ يستلحقه الكل وبشرط الإمكان وغير ذلك مما هو مذكور في الفروع ، وهي موجودة في الولد المذكور حين استلحقه عنده . وتأوله أصحابنا بتأويلين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أن سودة أخت عبد استلحقته معه ووافقته في ذلك حتى يكون كل الورثة مستلحقين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 57 ] ثانيهما : أن زمعة مات كافرا فلم ترثه سودة كما سلف وورثه عبد .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك : لا يستلحق إلا الأب خاصة ، واعتذر عنه بأنه - صلى الله عليه وسلم - لعله علم أنه بالفراش .

                                                                                                                                                                                                                              خامسها : قال الطحاوي : جعل بعض الناس دعوى سعد دعوى ادعاها لأخيه من أمة لغيره لا تزويج بينهما ، وليس كما قال ; لأنه أعلم من أن يدعي دعوى لا معنى لها ، ووجه دعواه أن أولاد البغايا في الجاهلية قد كانوا يلحقونهم في الإسلام بمن ادعاهم ، وقد كان عمر بن الخطاب يحكم بذلك على بعده من الجاهلية ، فكيف في عهده - صلى الله عليه وسلم - مع قربه من الجاهلية! فإن ما ادعى سعد ما كان يحكم له به ; لأنه بمنزلة أخيه في ذلك الذي قد توفي بعهده فيه ; لولا أن عبد بن زمعة قابل دعواه بدعوى توجب عتاقه للمدعي فيه ; لأنه كان يملك بعضه بكونه ابن أمة أبيه ، فلما ادعى الأخوة عتق منه حظه ، وكان ذلك هو الذي أبطل دعوى سعد فيه لا لأنها كانت باطلة ، ولم يكن من سودة تصديق لأخيها عبد على ما ادعاه من ذلك ، فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أقر به في نفسه وخاطبه بقوله : "الولد للفراش" ولم يجعل ذلك حجة عليها ، وأمرها بالحجاب منه ، إذ لم يجعله أخاها ، وكيف يجوز أن يجعله أخاها ويأمرها بالاحتجاب منه ، وهو قد أنكر على ذلك احتجابها من عمها من الرضاعة ؟

                                                                                                                                                                                                                              فائدة : لا خلاف أن من مات وبيده عبد فادعى بعض بني المتوفي أنه أخوه أنه لا يثبت له بتلك الدعوى نسب من المتوفي ، وأنه يدخل مع المدعي في ميراثه عند أكثر أهل العلم ، وإن كان ما يدخل منه مختلفا [ ص: 58 ] في مقداره ، ولا يدخل في قول أخرى في شيء مما بيده ، منهم الشافعي ، وحكي أنه قول جماعة من المدنيين .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطحاوي : وقد روي عن عبد الله بن الزبير أنه كان لزمعة جارية يطؤها ، وكان يظن برجل يقع عليها ، فمات زمعة وهي حامل ، فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها فذكرته سودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : "أما الميراث فله وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك" ففيه نفي الأخوة . واحتمل قوله : "أما الميراث فله" أن يكون المراد به الميراث الذي وجب له في قصة عبد بإقراره به لا فيما سواه من تركه زمعة .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها ; فائدة : فيه -كما قال أبو عمر- : الحكم بالظاهر إذ حكم للولد بالفراش ولم يلتفت للشبه ، وكذلك حكم في اللعان بظاهر الحكم ، ولم يلتفت إلى ما جاءت به على النعت المكروه . وحكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطل لأمره سودة بالاحتجاب .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عدي فذكره هنا ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أفتاه بالشدة عن الشبهة أيضا ; خشية أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى عليه كما أسلفناه ، فكأنه أهل به لغير الله ، وقد قال تعالى في ذلك وإنه لفسق [الأنعام : 121] فكانت في فتياه باجتناب الشبهات دلالة على اختيار القول في الفتوى بالأحوط في النوازل والحوادث المحتملة للتحليل والتحريم الذي لا يقف على حلالها وحرامها ; لاشتباه أسبابها ، وهذا معنى الحديث السالف : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أي : دع ما تشك فيه ولا تتيقن إباحته ، وخذ ما لا يشك فيه ولا التباس ، وقال ابن المنذر عن بعضهم : الشبهة تنصرف ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 59 ] أحدها : شيء يعلمه المرء حراما ثم يشك في حله ، فالأصل التحريم إلا بيقين مثل: الصيد حرام قبل ذكاته ، ثم يشك في ذكاته . وحديث عدي شاهد له ، وهو أصل لكل محرم حتى يحل ، ومن ذلك موت قريب على ما بلغه ، وله جارية فيتوقف حتى يتبين . وكذا إذا اشتبه عليه مذكى بميتة ، ولا مدخل للاجتهاد فيه على الأصح .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : شيء يعلمه حلالا ثم يشك في تحريمه ، فالأصل الحل ، كجارية شك في عتقها ، وزوجة شك في طلاقها . وحديث عبد الله بن زيد شاهد له .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : أن يشكل فلا يدري حله أو حرمته ويحتملان ، فالأحسن التنزه كما فعل الشارع في التمرة الساقطة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : المعراض وهو عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها الصيد ، فما أصاب بحده فهو وجه ذكاته فيؤكل ، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ ، وهو المقتول بما لا حد له كالعصا والحجر . يقال : أقذتها أقذها إذا أثخنتها ضربا . وقال أبو سعيد : الوقذ : الضرب على ما بين القفا فتصير هدتها إلى الدماغ فتذهب العقل . وقال ابن فارس : الوقذ : شدة الضرب .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : دلالة على اعتبار التسمية في الصيد . وقد اختلف العلماء في تاركها عمدا وسهوا على ثلاثة أقوال ، ثالثها : يفرق بين العامد والساهي ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن [ ص: 60 ] حي وإسحاق ورواية عن أحمد ، وقال أشهب : يؤكل مطلقا إلا أن يكون مستحقا .

                                                                                                                                                                                                                              وحمل ابن القصار وابن الجهم قول مالك في العامد على الكراهية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال عيسى وأصبغ : هو حرام مطلقا . وهو قول أبي ثور وداود . وقال الشافعي : هو حلال مطلقا ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر : ولا أعلم أحدا من السلف روي عنه المنع مطلقا إلا محمد بن سيرين والشعبي ، على خلاف فيه ، ونافع .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث التمرة المسقوطة والساقطة ، قد يأتي مفعول بمعنى فاعل كقوله : إنه كان وعده مأتيا [مريم : 61] ، أي : آتيا ، و حجابا مستورا [الإسراء : 45] أي : ساترا .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن التمرة وغيرها من اللقط لا يعرف .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أنه لا يجب أن يتصدق بها .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المدونة" : يتصدق بالطعام تافها كان أو غير تافه أعجب إلي إذا كان إن بقي خشي عليه الفساد . وقال مطرف : إن أكله غرمه وإن كان تافها . وهذا الحديث حجة عليه ، قال : وإن تصدق به فلا شيء عليه ، ومذهبه تعريف اللقطة وإن قلت كالتمرة والدرهم ، وكذا الشافعي لكن ليس كالكثير بل زمنا يقل أسف صاحبه عليه غالبا . وحكى ابن المنذر عن مالك : يعرفها سنة فإن كانت أقل من درهم إلا أن تكون اليسير مثل الفلس والجزرة فإنه يتصدق به من يومه ولا يأكله . وعن أبي حنيفة أن القليل عشرة دراهم . وقال ابن وهب : يعرفه أياما ثم يأكله إن كان فقيرا أو يتصدق به إن كان مليا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 61 ] وفيه : أنه لا يأكل الصدقة ; لتخوفه أن يكون ذلك من الصدقة ، وأنها حرام عليه ، وقد سلف ذلك في الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : تركها تنزها عنها ; لجواز أن تكون من تمر الصدقة ، وليس على أحد غيره بواجب أن يتبع (الجزازات) ; لأن الأشياء مباحة حتى يقوم الدليل على الحظر ، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره ، ولا يدرى أحلال هو أم حرام واحتملهما ولا دليل على أحدهما ، ولا يجوز أن يحكم على من أخذ مثل ذلك أنه أخذ حراما ; لاحتمال أن يكون حلالا ، غير أنا نستحب من باب الورع أن نقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل في التمرة ، وقد قال لوابصة بن معبد حين سأله عن البر والإثم فقال : "البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في الصدر" كذا ساقه ابن بطال عن وابصة ، والذي يحضرنا أنه قال للنواس بن سمعان . وقال ابن عمر : لا يبلغ أحد حقيقة التقوى [ ص: 62 ] حتى يدع ما حاك في الصدر .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : إذا وجدت التمرة في البيت فقد بلغت محلها وليست منالصدقة ، قلت : كان - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل -كما ساقه البخاري عن أبي هريرة- وإن الحسن أو الحسين أخذ تمرة فجعلها في فيه ، فطرحها من فيه . وهذا أحسن من جواب القابسي أنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم الصدقة ثم ينقلب إلى أهله ، فربما علقت تلك التمرة بثوبه فسقطت على فراشه فصارت شبهة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا : أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاح في مثله ، وأما التمرة واللبابة من الخبز ونحوهما فقد أجمعوا على أخذها [ ص: 63 ] ورفعها من الأرض وإكرامها بالأكل دون تعريفها ; استدلالا بقوله :

                                                                                                                                                                                                                              "لأكلتها" وأنها مخالفة لحكم اللقطة ، وسيأتي ذلك في كتاب : اللقطة . وحديث أنس وحديث أبي هريرة يدل أنهما واقعتان ، وجد تمرة في الطريق والثانية على فراشه .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث عائشة فإقراره لهم على هذا السؤال وجوابه لهم يدل على اعتبار التسمية إما عند الذبح أو عند الأكل ، والتسمية عند الأكل مستحبة ، وظاهره أنها تنوب عن التسمية عند الذكاة ، لا كما نفاه ابن التين وابن الجوزي حيث قال : قوله : "سموا وكلوا" ليس يعني أنه يجزئ عما لم يسم عليه ولكن ; لأن التسمية عند الطعام سنة ، ويستباح بها أكل ما لم يعرف أسمي عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذكاته إذا سمى .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : أمر - صلى الله عليه وسلم - ألا نظن بالمسلمين إلا خيرا ، وأن نحمل أمرهم على الصحة حتى يتبين غيره .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك في "الموطأ" : هذا كان في أول الإسلام قبل أن تنزل آية التسمية . وقد روى ذلك مبينا في حديث عائشة : أن الذابحين كانوا حديثي عهد بالإسلام وممن يصح أن لا يعلموا أن هذا شرع ، وأما الآن فقد استبان ذلك حتى لا نجد من لا يعلم أنها مشروعة ، ولا نظن بالمسلمين تركها ، فليسم إذا أكل ، ويسمي الآكل لما يخشى من النسيان ، قاله الداودي ، وهي نزعة مالكية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال : في جواب هذا منه - صلى الله عليه وسلم - من الأخذ بالحزم في ذلك ; خشية أن ينسى الذي صاده التسمية ، وإن كانت التسمية عند الأكل غير [ ص: 64 ] واجبة ، لما تقرر من فضل أهل ذلك القرن ، وبعدهم عن مخالفة أمر الله ورسوله في ترك التسمية على الصيد . وإنما لم تدخل الوساوس في حكم الشبهات المأمور باجتنابها لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم" فالوسوسة ملغاة مطرحة لا حكم لها ما لم تستقر وتثبت . والمالكية حملوا حديث عبد الله بن زيد على المستنكح الذي يغتر به ذلك كثيرا بدليل شكايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك . والشكوى إنما تكون من علة ، فإذا كثر الشك في مثل ذلك وجب إلغاؤه وإطراحه ; لأنه لو أوجب له - صلى الله عليه وسلم - حكما ; لما انفك صاحبه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل والظن فيقع في ضيق وحرج . وكذا حديث عائشة مثل هذا المعنى ; لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم يذكر اسم الله عليه ، لكان في ذلك أعظم الحرج ، والمسلمون محمولون على السلامة ، ولا ينبغي أن نظن بهم ترك التسمية ، فتضعف الشبهة فيه ، فلذلك لم يحكم بها وغلب الحكم بضدها ، لأن المسلمين في ذلك الزمن كانوا من القرن الذين أثني عليهم ، فلا يتوجه إليهم سوء الظن في دينهم .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قال أبو عمر : في الحديث من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولا يدرى هل سمى عليه أم لا ؟ أنه لا بأس به ، وهو محمول على [ ص: 65 ] أنه سمى ، إذ المؤمن لا يظن به إلا الخير ، وذبيحته وصيده أبدا محمولة على السلامة حتى يتبين غيره من تعمد ترك التسمية ونحوه ، قال : وبلغني أن ابن عباس سئل عن الذي نسي أن يسمي الله -عز وجل- على ذبيحته ، قال : يسمي الله ويأكل ولا بأس عليه . وقال مالك مثله .

                                                                                                                                                                                                                              ومما يدل على بطلان قول من قال : إن ذلك كان قبل نزول : ولا تأكلوا أن هذا الحديث كان بالمدينة ، وأن أهل مكة باديتها هم الذين أشير إليهم بالذكر في الحديث . ولا يختلف العلماء أن الآية نزلت في الأنعام بمكة ، وأن الأنعام مكية .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : لكن ذكر الثعلبي وغيره أن فيها ست آيات مدنيات نزلن بها .

                                                                                                                                                                                                                              وأجمع العلماء على أن التسمية على الأكل إنما معناها التبرك لا مدخل لها في الذكاة بوجه من الوجوه . واستدل جماعة العلماء على أن التسمية ليست واجبة بهذا الحديث لما أمرهم بأكل ذبيحة الأعراب بالبادية ، إذ يمكن أن يسموا ويمكن أن لا بجهلهم . ولو كان الأصل أن لا يؤكل من ذبائح المسلمين إلا ما صحت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقين من التسمية ، إذ الفرائض لا تؤدى إلا بيقين ، والشك والإمكان لا تستباح به المحرمات . قالوا : وأما قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [الأنعام : 121] فإنما خرج على تحريم الميتة وتحريم ما ذبح على النصب وأهل به لغير الله ، قال ابن عباس : خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : أنأكل مما قتلنا ولا نأكل [ ص: 66 ] مما قتل الله . فأنزل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " الآية .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 67 ] قال أبو عمر : كذا في الحديث : اليهود ، وإنما هم المشركون ; لأن اليهود لا يأكلون الميتة كما ساقه ابن عباس مرة أخرى . والمخاصمة هي التي قال تعالى : وإنه لفسق الآية [الأنعام : 121] . يريد قولهم : ما قتل الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية