الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) . قيل : نزلت في عثمان ، وقيل : في علي ، وقيل : في عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها ، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدق برومة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين ، وقيل : جاء عثمان بألف دينار فصبها في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما شبه تعالى صفة المنفق في سبيل الله بزارع الحبة التي أنجبت في تكثير حسناته ككثرة ما أخرجت الحبة ، وكان ذلك على العموم ، بين في هذه الآية أن ذلك إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى ؛ لأنهما مبطلان للصدقة ، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، بل يراعى جهة الاستحقاق لا جزاء من المنفق عليه ولا شكرا له ، فيكون قصده خالصا لوجه الله تعالى ، فإذا التمس بإنفاقه الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء ، وإن التمس الجزاء كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا شكرا . والمن من الكبائر ثبت في ( صحيح مسلم ) وغيره أنه أحد : " الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " . وفي النسائي : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمان بما أعطى .

وفي قوله : ( ثم لا يتبعون ) بعد قوله : ( في سبيل الله ) دلالة على أن النفقة تمضي في سبيل الله ، ثم يتبعها ما يبطلها ، وهو المن والأذى ، وقد تبين ذلك في الآية بعدها ، فهي موقوفة ، أعني قبولها على شريطة ، وهو أن لا يتبعها منا ولا أذى ، وظاهر الآية يدل على أن المن والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه ، سواء كان ذلك الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه ، أم كان في غير الجهاد ، وسواء كان المنفق مجاهدا أم غير مجاهد ، وقال ابن زيد : هي في الذين لا يخرجون إلى الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، والآية قبلها في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم ، ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشرط على الأولين ، والأذى يشمل المن وغيره ، ونص على المن وقدم لكثرة وقوعه من المتصدق ، فمن المن أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك ، وشبهه ، أو يتحدث بما أعطى ، فيبلغ ذلك المعطى ، فيؤذيه ، ومن الأذى أن يسب المعطى ، أو يشتكي منه ، أو يقول : ما أشد إلحاحك ، وخلصنا الله منك ، وأنت أبدا تجيئني ، أو يكلفه الاعتراف بما أسدى إليه . وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه . وقال زيد بن أسلم : إن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه ، تريد وجه الله ، فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة ؟ دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم إنما يخرجون الفواكه ، فإن عندي أسهما وجيعة ، فقال لها : لا بارك [ ص: 307 ] الله في أسهمك وجيعتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم .

( لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته ، و ( الذين ينفقون ) مبتدأ والجملة من قوله : ( لهم أجرهم ) خبر ، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فلم تدخل الفاء في الخبر ، وكان عدم التضمين هنا ؛ لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها ، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه ، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة ، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير ، فجاءت هذه الجملة ، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله ، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ ، واستحقاقه به .

وقيل : ( الذين ينفقون ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين ينفقون ( ولهم أجرهم ) في موضع الحال ، وهذا ضعيف ، أعني : جعل ( لهم أجرهم ) في موضع الحال ، بل الأولى إذا أعرب ( الذين ) خبر مبتدأ محذوف أن يكون ( لهم أجرهم ) مستأنفا وكأنه جواب لمن قال : هل لهم أجر ؟ وعند من أجرهم ؟ فقيل : ( لهم أجرهم عند ربهم ) وعطف بـ ( ثم ) التي تقتضي المهلة ؛ لأن من أنفق في سبيل الله ظاهرا لا يحصل منه غالبا المن والأذى ، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى ، لا يمن ولا يؤذي على الفور ، فلذلك دخلت ( ثم ) ، مراعاة للغالب ، وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق ، والمقارنين له حكم المتأخرين .

وقال الزمخشري : ومعنى ( ثم ) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة‍‌ على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله : ( ثم استقاموا ) انتهى كلامه ، وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لـ ( ثم ) ولا أعلم له في ذلك سلفا ، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى ، و ( ما ) من ( ما أنفقوا ) موصول عائده محذوف ، أي : أنفقوه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنفاقهم ، وثم محذوف ، أي : منا على المنفق عليه ، ولا أذى له ، وبعد ما قاله بعضهم من أن ( ولا أذى ) من صفة المعطي ، وهو مستأنف ، وكأنه قال : الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق ، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) لا يراد به في الآخرة ، وأن المعنى : إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه ، وأن لا يعقبه المن ، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد ، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر .

التالي السابق


الخدمات العلمية