الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 150 ] باب حد الذميين إذا زنوا

قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في أهل الكتاب { فإن جاءوك فاحكم بينهم } قرأ إلى { بينهم بالقسط } ( قال الشافعي ) رحمه الله ففي هذه الآية بيان - والله أعلم - أن الله تبارك وتعالى جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم الخيار في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم وجعل عليه إن حكم أن يحكم بينهم بالقسط ، والقسط حكم الله تبارك وتعالى الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام المحض الصادق أحدث الأخبار عهدا بالله تبارك وتعالى قال الله عز وجل { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ( قال الشافعي ) وفي هذه الآية ما في التي قبلها من أمر الله تبارك وتعالى له بالحكم بما أنزل الله إليه ( قال ) وسمعت من أرضى من أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } : إن حكمت لا عزما أن تحكم ( قال الشافعي ) وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهوديين زنيا رجمهما وهذا معنى قوله عز وجل { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ومعنى قول الله تبارك وتعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } والدليل الواضح أن من حكم عليهم من أهل دين الله فإنما يحكم بينهم بحكم المسلمين فما حكمنا به على مسلم حكمنا به على من خالف الإسلام وحكم به عليهم ولهم ( قال الشافعي ) أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا } قال عبد الله فرأيت الرجل يخبئ على المرأة يقيها الحجارة ( قال الشافعي ) فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بما أنزل الله بالقسط ثم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالرجم وتلك سنة على الثيب المسلم إذا زنى ودلالة على أن ليس لمسلم حكم بينهم أبدا أن يحكم بينهم إلا بحكم الإسلام ( قال الشافعي ) قال لي قائل إن قول الله تبارك وتعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ناسخ لقوله عز وجل { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فقلت له : الناسخ إنما يؤخذ بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه لا مخالف له أو أمر أجمعت عليه عوام الفقهاء فهل معك من هذا واحد ؟ قال : لا ، فهل معك ما يبين أن الخيار غير منسوخ ؟ قلت قد يحتمل قول الله عز وجل { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } " إن حكمت وقد روى بعض أصحابك عن سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مسلم زنى بذمية أن يحد المسلم وتدفع الذمية إلى أهل دينها .

( قال الشافعي ) فإذا كان هذا ثابتا عندك فهو يدلك على أن الإمام مخير في أن يحكم بينهم أو يترك الحكم عليهم ولو كان الحكم لازما للإمام في حال لزمه أن يحكم بينه في حد واحد حد فيه المسلم ولم تحد الذمية قال وكيف لم تحد الذمية من قبل أنها لم ترض حكمه وأنه مخير في أن يحكم فيها أو يدع الحكم ؟ قال فما الحال التي يلزمه فيها أن يحكم لهم وعليهم ؟ قلت إذا كانت بينهم وبين مسلم أو مستأمن تباعة فلا يجوز أن يحكم لمسلم ولا عليه إلا مسلم ولا يجوز أن يكون عقد بالمستأمن أمانا على ماله ودمه حتى يرجع أن يحكم عليه إلا مسلم قال فهذا زنا واحد قد رد فيه علي رضي الله عنه الذمية على أهل دينها قلنا : إنه لم يكن لها بالزنا على المسلم شيء تأخذه منه ولا للمسلم عليها شيء فيحكم لها وعليها [ ص: 151 ] وإنما كان حد فأخذه إن كان حديثكم ثابتا عنه من المسلم ورد الذمية إلى أهل دينها لما وصفنا من أنها لم ترض حكمه وأنه مخير في الحكم لها وعليها ( قال الشافعي ) فقال وقد روى بجالة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب " فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة " فكيف لم تأخذوا به ؟ فقلت له بجالة رجل مجهول ليس بالمشهور ولا يعرف أن جزء معاوية كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملا ونحن نسألك فإن قلت ما قلنا فلم تحتج بأمر قد علمت أنه لا حجة فيه ؟ وإن قلت بل نصير إلى حديث بجالة فحديث بجالة موافق لنا ; لأن عمر إنما حملهم إن كان على ما كان حاملا عليه المسلمين ; لأن المحارم لا يحللن للمسلمين ولا ينبغي للمسلم الزمزمة وهذا يدل إن كان ثابتا على أنهم يحملون على ما يحمل عليه المسلمون فحملتهم على ما يحمل عليه المسلمون وتبعتهم كما تتبع المسلمين قال : لا قلت : فقد خالفت ما رويت عن عمر قال فإن قلت أتبعهم فيما رأيت أنه تبعهم فيه عمر ؟ قلت ولم تتبعهم أنت فيه إلا أنه يحرم عليهم ؟ قال : نعم ، قلت : فكذلك تتبعهم في كل ما علمت أنهم مقيمون عليه مما يحرم عليهم قال فإن قلت أتبعهم في هذا الذي رويت أن عمر تبعهم فيه خاصة قال قلت فيلزمك أن تتبعهم في غيره إذا علمتهم مقيمين عليه وأن تستدل بأن عمر إنما يتبعهم في شيء بلغه أنهم مقيمون عليه مما يحرم عليهم أن يتبعهم في مثله وأعظم منه مما يحرم عليهم فيلزمك أن تعلم أن عمر صيرهم أن حكم عليهم إلى ما يحكم به على المسلمين فتعلم أن الله تبارك وتعالى أمر بالحكم بينهم بالقسط ثم حكم بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجم وهي سنته التي سن بين المسلمين وقال صلى الله عليه وسلم فيها { لأقضين فيما بينكم بكتاب الله عز وجل } ثم زعمت عن عمر أنه حرم عليهم ما يحرم على المسلمين ثم زعمت عن علي رضي الله عنه أنه دفع نصرانية إلى أهل دينها فكل ما زعمنا وزعمت حجة لنا وكل ما زعمت تعرفه ولا نعرفه نحن حجة لنا ، ولا يخالف قولنا وأنت تخالف ما تحتج به ، قال منهم قائل : وكيف لا تحكم بينهم إذا جاءوك مجتمعين أو متفرقين ؟ قلت أما متفرقين فإن الله عز وجل يقول { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فدل قول الله تبارك وتعالى { فإن جاءوك } على أنهم مجتمعون ليس إن جاءك بعضهم دون بعض ودل على أن له الخيار إذا جاءوه في الحكم أو الإعراض عنهم وعلى أنه إن حكم فإنما يحكم بينهم حكمه بين المسلمين ( قال الشافعي ) ولم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يخالف في أن اليهوديين اللذين رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنا كانا موادعين لا ذميين ( قال الشافعي ) وقال لي بعض من يقول القول الذي أحكي خلافه : إنه ليس للإمام أن يحكم على موادعين وإن رضيا حكمه وهذا خلاف السنة ونحن نقول : إذا رضيا حكم الإمام فاختار الإمام الحكم حكم عليهما ( قال الشافعي ) وقد كان أهل الكتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بناحية المدينة موادعين زمانا وكان أهل الصلح والذمة معه بخيبر وفدك ووادي القرى ومكة ونجران واليمن يجري عليهم حكمه صلى الله عليه وسلم ثم مع أبي بكر حياته ثم مع عمر صدرا من خلافته حتى أجلاهم عمر بما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في ولايته وحيث تجري أحكامه بالشام والعراق ومصر واليمن ثم مع عثمان بن عفان ثم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم نعلم أحدا ممن سمينا حكم بينهم في شيء ولو حكموا بينهم لحفظ بعض ذلك إن لم يحفظ كله ( قال الشافعي ) وأهل الذمة بشر لا يشك بأنهم يتظالمون فيما بينهم ويختلفون ويتطالبون بالحقوق وأنهم يعقلون أو بعضهم ما لهم وما عليهم ، وما نشك أن الطالب حريص على من يأخذ له حقه وأن المطلوب حريص على من يدفع عنه ما يطلب به وأن كلا قد يحب أن يحكم له من يأخذ له ويحكم عليه من يدفع عنه وأن قد يرجو كل في حكام المسلمين ، والعلم يحكمهم [ ص: 152 ] أو الجهالة به ما لا يرجو في حاكمه وأن لو كان على حكام المسلمين الحكم بينهم إذا جاءهم بعض دون بعض وإذا جاءوهم مستجمعين لجاءوهم في بعض الحالات مستجمعين ( قال الشافعي ) ولا نعلم أحدا من أهل العلم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم إلا في الموادعين اللذين رجم ولا عن أحد من أصحابه بعده إلا ما روى بجالة مما يوافق حكم الإسلام وسماك بن حرب عن علي رضي الله عنه مما يوافق قولنا في أنه ليس على الإمام أن يحكم إلا أن يشاء ( قال الشافعي ) وهاتان الروايتان - وإن لم تخالفانا - غير معروفتين عندنا ونحن نرجو أن لا نكون ممن تدعوه الحجة على من خالفه إلى قبول خبر من لا يثبت خبره معرفته عنده ( قال الشافعي ) فقال لي بعض الناس : فإنك إذا أبيت الحكم بينهم رجعوا إلى حكامهم فحكموا بينهم بغير الحق عندك ( قال الشافعي ) فقلت له : وأنا إذا أبيت الحكم فحكم حاكمهم بينهم بغير الحق ولم أكن أنا حاكما فما أنا من حكم حكامهم أترى تركي أن أحكم بينهم في درهم لو تظالموا فيه وقد أعلمتك ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من الخيار في الحكم بينهم أو الترك لهم وما أوجدتك من الدلائل على أن الخيار ثابت بأن لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من جاء بعده من أئمة الهدى أو ترى تركي الحكم بينهم أعظم أم تركهم على الشرك بالله تبارك وتعالى ؟ فإن قلت فقد أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم وقد علم أنهم مقيمون على الشرك به معونة لأهل دينه فإقرارهم على ما هو أقل من الشرك أحرى أن لا يعرض في نفسك منه شيء إذا أقررناهم على أعظم الأمور فأصغرها أقل من أعظمها ( قال الشافعي ) فقال لي قائل فإن امتنعوا أن يأتوا حكامهم قلت أخيرهم بين أن يرجعوا إليهم أو يفسخوا الذمة ، قال فإذا خيرتهم فرجعوا وأنت تعلم أنهم يحكمون بينهم بالباطل عندك فأراك قد شركتهم في حكمهم ( قال الشافعي ) فقلت له لست شريكهم في حكمهم وإنما وفيت لهم بذمتهم ، وذمتهم أن يأمنوا في بلاد المسلمين لا يجبرون على غير دينهم ولم يزالوا يتحاكمون إلى حكامهم برضاهم فإذا امتنعوا من حكامهم قلت لهم لم تعطوا الأمان على الامتناع والظلم فاختاروا أن تفسخوا الذمة أو ترجعوا إلى من لم يزل يعلم أنه كان يحكم بينكم منذ كنتم فإن اختاروا فسخ الذمة فسخناها وإن لم يفعلوا ورجعوا إلى حكامهم فكذلك لم يزالوا لا يمنعهم منه إمام قبلنا ورجوعهم إليهم شيء رضوا به لم نشركهم نحن فيه ( قال الشافعي ) ولو رددناهم إلى حكامهم لم يكن ردنا لهم مما يشركهم ولكنه منع لهم من الامتناع ( قال ) وقلت لبعض من يقول هذا القول أرأيت لو أغار عليهم العدو فسبوهم فمنعوهم من الشرك وشرب الخمر وأكل الخنزير أكان علي أن أستنقذهم إن قويت لذمتهم ؟ قال : نعم قلت : فإن قال قائل إذا استنقذتهم ورجعوا آمنين أشركوا وشربوا الخمر وأكلوا الخنزير فلا تستنقذهم فتشركهم في ذلك ما الحجة ؟ قال الحجة أن نقول أستنقذهم لذمتهم قلت : فإن قال في أي ذمتهم وجدت أن تستنقذهم ؟ هل تجد بذلك خبرا ؟ قال لا ولكن معقول إذا تركتهم آمنين في بلاد المسلمين أن عليك الدفع عمن في بلاد المسلمين قلت فإن قلت أدفع عما في بلاد المسلمين للمسلمين فأما لغيرهم فلا قال إذا جعلت لغيرهم الأمان فيها كان عليك الدفع عنهم قلت وحالهم حال المسلمين ؟ قال لا ، قلت فكيف جعلت على الدفع عنهم وحالهم مخالفة حال المسلمين ، هم وإن استووا في أن لهم المقام بدار المسلمين مختلفون فيما يلزم لهم المسلمين ؟ ( قال الشافعي ) وإن جاز لنا القتال عنهم ونحن نعلم ما هم عليه من الشرك واستنقاذهم لو أسروا فردهم إلى حكامهم وإن حكموا بما لا نرى أخف وأولى أن يكون لنا - والله أعلم - ( قال الشافعي ) فقال لي بعض الناس : أرأيت إن أجزت الحكم بينهم كيف تحكم ؟ قلت : إذا اجتمعوا على الرضا بي فأحب إلي أن لا أحكم لما وصفت لك ولأن ذلك لو كان [ ص: 153 ] فضلا حكم به من كان قبلي فإن رضيت بأنه مباح لي لم أحكم حتى أعلمهم أني إنما أجيز بينهم ما يجوز بين المسلمين وأرد بينهم ما يرد بين المسلمين وأعلمهم أني لا أجيز بينهم إلا شهادة الأحرار المسلمين العدول فإن رضوا بهذا فرأيت أن أحكم بينهم حكمت وإن لم يرضوا معا لم أحكم وإن حكمت فبهذا أحكم قال : وما حجتك في أن لا تجيز شهادتهم بينهم ؟ قلت قول الله تبارك وتعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } إلى قوله { ممن ترضون من الشهداء } وقول الله عز وجل { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ففي هاتين الآيتين - والله أعلم - دلالة على أن الله عز وجل إنما عنى المسلمين دون غيرهم ولم أر المسلمين اختلفوا في أنها على الأحرار العدول من المسلمين خاصة دون المماليك العدول ، والأحرار غير العدول وإذا زعم المسلمون أنها على الأحرار المسلمين العدول دون المماليك ، فالمماليك العدول والمسلمون الأحرار وإن لم يكونوا عدولا فهم خير من المشركين كيفما كان المشركون في ديانتهم فكيف أجيز شهادة الذي هو شر وأرد شهادة الذي هو خير بلا كتاب ولا سنة ولا أثر ولا أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية