الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1963 2069 - حدثنا مسلم ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن أنس ح .

                                                                                                                                                                                                                              حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا أسباط أبو اليسع البصري ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير ، وإهالة سنخة ، ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعا له بالمدينة عند يهودي ، وأخذ منه شعيرا لأهله ، ولقد سمعته يقول : " ما أمسى عند آل محمد - صلى الله عليه وسلم - صاع بر ولا صاع حب" وإن عنده لتسع نسوة . [2508 - فتح: 4 \ 302]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث الأعمش قال : ذكرنا عند إبراهيم الرهن في السلم فقال : حدثني الأسود ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ، ورهنه درعا من حديد .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أنس : أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة سنخة ، ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعا له بالمدينة عند يهودي ، وأخذ منه شعيرا لأهله ، ولقد سمعته يقول : "ما أمسى عند آل محمد - صلى الله عليه وسلم - صاع بر ولا صاع حب" وإن عنده لتسع نسوة .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح : حديث عائشة أخرجه مسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية للبخاري : ومات ودرعه مرهونة عنده .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 112 ] وترجم عليه أيضا في السلم : باب الكفيل في السلم ، ثم ساقه ، وباب الرهن في السلم ، ثم ساقه ، وفيه : إلى أجل معلوم ، وارتهن منه درعا من حديد ، وكان ذلك لأهله كما في النسائي من حديث ابن عباس ، وفي "المدونة" : قضى بذلك دينا كان عليه ، وفي غير البخاري أنه كان لضيف طرقه ، ثم فداها الصديق . وخرجه البخاري في أحد عشر موضعا من "صحيحه" ، هذا أولها .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أنس الظاهر أنه من أفراده .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الباب عن ابن عباس سلف ، وهو في أبي داود وابن ماجه بإسناد على شرط البخاري . وأسماء أخرجه النسائي . واختلف في [ ص: 113 ] مقدار ما استدانه ، ففي البخاري من حديث عائشة : ثلاثين صاعا من شعير ، وفي أخرى : بعشرين ، وفي "مصنف عبد الرزاق" : بوسق شعير أخذه لأهله ، وللبزار من طريق ابن عباس أربعين صاعا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى زيد بن أسلم : أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه ، فأغلظ له ، فقال لرجل : "انطلق إلى فلان فليبعنا طعاما إلى أن يأتينا شيء" ، فأبى اليهودي إلا برهن ، فقال : "اذهب إليه بدرعي" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 114 ] وهذا اليهودي يقال له : أبو الشحم ، قاله الخطيب البغدادي في "مبهماته" وكذا جاء في رواية للشافعي والبيهقي من حديث (عبد الله ابن) جعفر بن أبي طالب عن أبيه أنه - صلى الله عليه وسلم - رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي -رجل من بني ظفر- في شعير ، لكنه منقطع كما قاله البيهقي . ووقع في "نهاية إمام الحرمين" تسميته بأبي شحمة . وهذه الدرع هي ذات الفضول قاله أبو عبد الله محمد بن أبي بكر التلمساني في كتابه : "الجوهرة" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 115 ] وفيه أحكام خمسة :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : ما ترجم عليه وهو الشراء بالنسيئة ، وهو إجماع . قال ابن عباس : هو في كتاب الله ، وذكر : إلى أجل مسمى [البقرة : 282] .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : معاملة الشارع اليهود لبيان الجواز والاقتداء به . فإن قلت : لم لم يرهن عند مياسير الصحابة ؟ أجيب ; لأنه لا يبقى لأحد عليه منة لو أبرأ منه وقبل .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : معاملة من يظن أن أكثر ماله حرام ما لم يتيقن أن المأخوذ بعينه حرام ، قاله الخطابي . قال ابن التين : ولا أدري من أين أخذه ؟ قلت : ظاهر ، وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون للسحت .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة : قال بعضهم : إنما رهن منهم ; لأنهم كانوا الباعة في المدينة حينئذ ، والأشياء (متعددة) عندهم ممكنة ، وكان وقت ضيق ، وربما لم يوجد عند أصحابه ، وكانت الأشياء متعذرة ، مع إشارته - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف مع أصاحبه .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الرهن في الحضر كما صرح به في الحديث ، وانفرد مجاهد وتبعه داود بمنعه ، وقال : إنما ذكر الله في السفر . وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 116 ] أصح ولم يمنعه الله ، وإنما ذكر وجها من وجوهه وهو السفر .

                                                                                                                                                                                                                              والدرع : درع الحرب ، وقيده بالحديد ; لأن القميص يسمى درعا ، فرهن ما هو أشد إليه حاجة ، فما وجد شيئا يرهنه غيره . قال ابن فارس : درع الحديد مؤنثة ، ودرع المرأة قميصها مذكر .

                                                                                                                                                                                                                              و (الإهالة) : الودك . واستأهل الرجل إذا أكل الإهالة ، وقال ابن سيده : إنها ما أذيب من الشحم . وقيل : الشحم والزيت وقيل : كل دهن تأدم به إهالة ، واستأهل أخذ الإهالة . وفي "الواعي" : الإهالة : ما أذيب من شحم الألية . وقال الداودي : إنها العكة .

                                                                                                                                                                                                                              والسنخة : المتغيرة الرائحة من طول الزمن من قولهم : سنخ الدهن -بكسر النون- : تغير . وقال ابن التين : يعني أن فيها سمنا لم يغير طعمه شيئا ، ثم ذكر ما قدمته وروي زنخة بالزاي .

                                                                                                                                                                                                                              و (الآل) هنا الأهل أي : أهل البيت . وإنما قال ذلك ليعزي فقراء المؤمنين وهو شرح حال لا شكوى . ولعله سئل في وقت لم يكن عنده شيء واعتذر ، وهذا كله ابتلاء من الله ليعظم الأجر ، وإلا فقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فردها تواضعا ورضي بزي المساكين . وقال : "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" [ ص: 117 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 118 ] ليكون أرفع لدرجته ، ولقد كان يخرج فيلقى أبا بكر فيقول : "ما أخرجك" فيقول : الجوع . قال : "وأنا أخرجني" .

                                                                                                                                                                                                                              فكان هذا ابتلاء من الرب جل جلاله لجلالة قدره عنده . وقد قال موسى كليمه : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص : 24] والخير كسرة من شعير اشتاقها واشتهاها .

                                                                                                                                                                                                                              وفائدة ذلك من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : تعليم الخلق الصبر فكأنه قال : أنا أكرم الخلق على الله وهذا حالي ، فإذا ابتليتم أنتم فاصبروا .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما : إعلام الناس أن البلاء يليق بالأخيار ; ليفرح المبتلى .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : رد على زفر والأوزاعي أن الرهن ممنوع في السلم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 119 ] نعم كره علي الرهن والقبيل في السلم ، وابن عمر وابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير وشريح وسعيد بن المسيب ، كما ذكره ابن أبي شيبة عنهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مالك : لا بأس بالرهن والكفيل فيه ، ولم يبلغني أن أحدا كرهه غير الحسن البصري ، ورخص فيه عطاء والشعبي . وبه قال أبو حنيفة وصاحباه والثوري والشافعي . وقال أحمد وأبو ثور : لا يجوز ذلك في السلم ولا سبيل له على الكفيل .

                                                                                                                                                                                                                              وحجة من كرهه أنه إن أخذ الرهن في رأس المال فرأس المال غير الدين ، إنما دينه ما أسلم فيه ، ورأس المال مستهلك في الذمة غير مطلوب به ، وإن أخذه بالسلم فيه فكأنه اقتضاه قبل أجله ، وهو من باب سلف جر منفعة لأنه ينتفع بما يستوثق به من الرهن والضامن .

                                                                                                                                                                                                                              وحجة المجيز إجماعهم على إجازة الرهن والكفيل والحمالة في الدين المضمون من ثمن سلعة قبضت ، فكذلك السلم ، وبالقياس على الثمن .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز رهن آلة الحرب عند أهل الذمة ، وذلك أن من أمنته فأنت آمن منه ، بخلاف الحربي .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : قبول ما تيسر وإهداء ما تيسر ، وقد دعي - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجاب ، أخرجه البيهقي عن الحسن مرسلا .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : مباشرة الشريف والعالم شراء الحوائج بنفسه وإن كان له من يكفيه ; لأن جميع المؤمنين كانوا حريصين على كفاية أمره وما يحتاج إلى التصرف فيه رغبة منه في رضائه وطلب الأجر والثواب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 120 ] فإن قلت : فما تعمل في الحديث الصحيح : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مات وهي مرهونة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : هو محمول على من لم يخلف وفاء دون من خلف .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية