الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        إذا ثبت أن المبتدع آثم; فليس الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة ، واختلافها يقع من جهات بحسب النظر الفقهي ، فيختلف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا ، ومن جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها ، ومن جهة كون صاحبها مستترا بها أو معلنا ، ومن جهة كونه مع الدعاء إليها خارجا على غيره أو غير خارج ، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة ، ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر ، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه ، إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن .

                        وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول; فلا ينبغي أن [ ص: 217 ] يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جملي ، فهو الأولى في هذا المقام .

                        فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا :

                        فظاهر ، لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها أمكن منه في قلب المقلد ، وإن ادعى النظر أيضا; لأن المقلد الناظر لا بد من استناده إلى مقلده في بعض الأصول التي يبنى عليها ، أو المقلد قد انفرد بها دونه ، فهو آخذ بخظ ما لم يأخذ فيه الآخر; إلا أن يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه ، فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد ، فصار في درجة الأول ، وزاد عليه الأول بأنه أول من سن تلك السنة السيئة ، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها . وهذا الثاني ممن عمل بها ، فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح ، فوزره أعظم على كل تقدير ، والثاني دونه; لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه ، فليس له [ إلا ] النظر في أدلة جملية لا تفصيلية ، والفرق بينهما ظاهر; فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية ، فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال .

                        وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها :

                        فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع .

                        وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان :

                        فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه ، لا يتعداه إلى غيره ، فعلى [ ص: 218 ] أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة ، هي باقية على أصل حكمها . فإذا أعلن بها وإن لم يدع إليها فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به . وسيأتي بحول الله أن الذريعة قد تجري مجرى المتذرع إليه أو تفارقه ، فانضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها ، والوزر في ذلك أعظم بلا إشكال .

                        ومثاله ما حكى الطرطوشي في أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي :

                        قال : " لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان ، وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ، قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء ، وكان حسن التلاوة ، فقام ، فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان ، فأحرم خلفه رجل ، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع ، فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ، ثم جاء في العام القابل ، فصلى معه خلق كثير ، وشاعت في المسجد ، وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ، ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا " .

                        فقلت له : فرأيتك تصليها في جماعة ؟

                        قال : " نعم ! وأستغفر الله منها " .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية