الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            باب الأذان

            مسألة : من أمير المؤمنين خليفة الوقت الإمام المتوكل على الله ورد أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس ، وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه ، وذكروا أنه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان ، فإن الشيطان إذا سمع المؤذن أدبر ، وبقي الكلام هل يكره لسامع المؤذن في حال الاضطجاع استمراره على الاضطجاع مع حكايته للفظ المؤذن ، أو الجلوس له أولى ؟ وقد قال الله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [ ص: 37 ] ونقل عن الإمام مالك أنه أغلظ على من سأل عن حديث في حال قيامه فكيف الحال في ذلك .

            الجواب : الآية الشريفة واردة في الحث على الذكر في كل حال وأنه لا يكره في حالة من الأحوال ، وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه . وهذا الحكم الذي دلت عليه الآية ، والحديث باق معمول به عند العلماء كافة ، وما ذكر في السؤال من أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس ، وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه لا أصل له في الحديث ، ولا ورد قط في حديث لا صحيح ، ولا ضعيف ، ولا ذكره أحد من أصحابنا في كتب الفقه .

            فيجوز للسامع إذا كان قائما أن يجلس ، وإذا كان جالسا أن يضطجع ، وإذا كان مضطجعا أن يستمر على الاضطجاع ويجيب المؤذن حال الاضطجاع ، ولا يكره له ذلك ; لأنه لم يرد فيه نهي ، والكراهة تحتاج إلى دليل من نهي خاص ، ولا سبيل إلى وجوده ، بل الآية الشريفة دالة على جوازه ، وكذلك الحديث المذكور .

            وأما إغلاظ الإمام مالك على من سأله عن حديث في حال قيامه ، فلا ينافي ذلك ; لأن العلم وخصوصا الحديث له خصوصية في التوقير والتبجيل أعظم مما يطلب في الذكر ، وقد أخرج البيهقي في كتاب المدخل عن ابن المبارك أن رجلا سأله عن حديث ، وهو يمشي ، فقال : ليس هذا من توقير العلم . فكره ابن المبارك أن يسأل عن حديث ، وهو ماش في الطريق ، وعده منافيا لتوقير العلم ، ومعلوم أن الذكر للماشي في الطريق غير مكروه ، بل ، ولا تكره قراءة القرآن للماشي كما ذكره النووي وغيره .

            وأخرج البيهقي عن إسماعيل بن أبي أويس قال : كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه ، وسرح لحيته ، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة فقيل له في ذلك ، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يكره أن يحدث في الطريق ، أو وهو قائم ، وأخرج عن سعيد بن المسيب أن رجلا سأله عن حديث ، وهو مريض ، وهو مضطجع فجلس فحدثه ، فقال الرجل : وددت أنك لم تتعن ، فقال : كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع .

            وأخرج عن ضرار بن مرة قال : كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر . فهذه آداب اختص بها نشر الحديث وروايته تعظيما له ، ولا يطلب عند الذكر الاعتناء بمثل ذلك من تسريح اللحية والجلوس على صدر فراش [ ص: 38 ] ونحوه ، ولا يكره الذكر للمحدث ، بل ، ولا للجنب ، والمقصود بهذا كله أن نشر العلم يطلب عنده آداب تعظيما له يختص بها عن الذكر ونحوه حتى لو أراد الإنسان أن يمر على حديث لنفسه في كتابه ، أو نحوه من غير نشر بين الناس لم يكره له أن يمر عليه ، وهو مضطجع ، أو قائم ، ولو أراد أن يقرئ أحدا القرآن كره له أن يقرئه ، وهو مضطجع ، أو قائم ، أو ماش ; لأن ذلك ليس من توقير العلم ، ولو أراد أن يقرأ لنفسه وحده لم يكره له أن يقرأ ، وهو قائم ، أو ماش ، أو مضطجع ; لأن ذلك مجرد قراءة وذكر لا تعليم .

            والحاصل أن الآداب المطلوبة عند تعليم الناس العلم ونشره لهم لا يتعين طلبها على الإنسان إذا كان وحده ، فللقارئ وحده حكم غير المقرئ لغيره ، وللناظر في الحديث وحده حكم غير الراوي له عند غيره ، والذاكر حكمه حكم المنفرد لا حكم المعلم فلهذا لم يكره له الذكر في حال من الأحوال وكره السؤال عن الحديث في حال القيام ، وأما كونه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان ، فهذا صحيح ، وقد ورد النهي عنه لكنه خاص بالمسجد ، روى مسلم ، وأبو داود ، والترمذي عن أبي الشعثاء قال : كنا مع أبي هريرة في المسجد ، فخرج رجل حين أذن المؤذن ، فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم ، ثم قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة ، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي .

            وأخرج ابن ماجه عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك الآذان في المسجد ، ثم خرج لم يخرج لحاجة ، وهو لا يريد الرجعة ، فهو منافق " والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية