الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقرأ ابن السميفع : كمثل الذين ، على الجمع ، وهي قراءة مشكلة ؛ لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونه تخفيفا لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع ، فكيف إذا صرح به ؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي على وجوه : أحدها : أن يكون إفراد الضمير حملا على التوهم المعهود مثله في لسان العرب ، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى ، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية ، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد ، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط ، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد ، وهو الذين ومن الموصولان ، مثال الجزم بالذي قول الشاعر ، أنشده ابن الأعرابي :


كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع



الثاني : أن يكون إفراد الضمير ، وإن كان عائدا على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع ، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب ، أنشد أبو الحسن :


وبالبدو منا أسرة يحفظوننا     سراع إلى الداعي عظام كراكره



أي كراكرهم . والثالث : أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائدا على الذين ، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد ، التقدير استوقد هو ، أي المستوقد ، فيكون نحو قوله تعالى : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) أي هو ، أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية ، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل . أحدهما : أن يكون حذف وأصله لهم ، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد نارا وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس ، فيكون مثل قول الشاعر :

[ ص: 78 ]

ولو أن ما عالجت لين فؤادها     فقسا استلين به للان الجندل



يريد ما عالجت به ، فحذف حرف الجر والضمير ، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس ، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو ، وضابطها أن يكون الضمير مجرورا بحرف جر ليس في موضع رفع ، وأن يكون الموصول ، أو الموصوف به الموصول ، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظا ومعنى ، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير ، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق . والوجه الثاني : أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها ، لكن عطف عليها جملة بالفاء ، وهي جملة لما وجوابها ، وفي ذلك عائد على الذي ، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر ، فيكون شبيها بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم : زيد جاءت هند فضربتها ، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما ، وهو قوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع .

واستوقد : استفعل ، وهي بمعنى أفعل . حكى أبو زيد : أوقد واستوقد بمعنى ، ومثله أجاب واستجاب ، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء ، أو للطلب ، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح ، وكونها بمعنى أوقد ، قول الأخفش ، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى ، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه . ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا نارا فأوقدوها ، ( فلما أضاءت ما حوله ) ؛ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب ، إنما تتسبب عن الاتقاد ، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح ، والتشبيه وقع بين قصة وقصة ، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ، وعلى أنه في قوله : ( كمثل الذي استوقد نارا ) ، هو من قبيل المقابلة أيضا ؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع ؟ أو الفوج الذي استوقد ، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى . على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع ، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف ، التقدير كمثل أصحاب الذي استوقد ، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفردا لفظا ومعنى لما احتيج إلى ذلك ؛ لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة ، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة ، كما قدمنا ، ونكر نارا وأفردها ؛ لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام ، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوأة به ، فشبه حاله بحال من استوقد نارا ما ؛ إذ لا يدل إلا على المطلق ، لا على كثرة ولا على عهد ، والفاء في فلما للتعقيب ، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة ، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه ، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فأغنى عن إعادته هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية