الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      معنى نتقنا الجبل : اقتلعناه، ورفعناه، وتقدم ذكر خبره في [البقرة: 63].

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ... الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      [قيل: إن الآية مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن خلقه تعالى إياهم، وتدبيره لهم؛ بما فيه من الدلالة على قدرته ووحدانيته؛ قام مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم، كما قال في السماوات والأرض: قالتا أتينا [فصلت: 11]].

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 126 ] وقد جاء في الخبر: "أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيده، فاستخرج منه من هو مولود إلى يوم القيامة كهيئة الذر، وقال: يا آدم؛ هؤلاء ذريتك، أخذت عليهم العهد بأن يعبدوني، ولا يشركوا بي شيئا، وعلي رزقهم، فقال: نعم يا رب، فقال الله تعالى: ألست بربكم قالوا بلى ، فقال للملائكة: اشهدوا، فقالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، إلى قوله: بما فعل المبطلون "، هذا كله من قول الملائكة، ومعنى أن تقولوا : لئلا تقولوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : أشهد بعضهم على بعض؛ فالمعنى على هذا: قالوا: بلى شهد بعضنا على بعض؛ كي لا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين؛ فيوقف على القول الأول على: {بلى}، ولا يحسن الوقف عليه في الثاني.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الروايات: أنهم أجابوا الله عز وجل بالتلبية، فقالوا: أطعناك، لبيك اللهم لبيك؛ فأعطيها آدم في المناسك.

                                                                                                                                                                                                                                      واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها : قال ابن مسعود ، وابن عباس : هو بلعم بن باعوراء.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 127 ] مالك بن دينار: بعث بلعم بن باعوراء إلى ملك مدين؛ ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه، وأقطعه، فاتبع دينه، وترك دين موسى؛ ففيه نزلت هذه الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                      المعتمر بن سليمان ، عن أبيه: كان بلعم قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين؛ سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو، فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه، فقيل له في ذلك، فقال: ما أقدر على أكثر مما تسمعون، ولكني أرى أن تخرجوا إليهم بناتكم، فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا. ففعلوا، فوقع بنو إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي: أن بلعم بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له، ودعا عليه موسى أن ينسيه الله اسمه الأعظم، فنسيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : كان بلعم من مدينة الجبارين، وقيل: كان من اليمن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 128 ] عبد الله بن عمر : نزلت في أمية بن أبي الصلت، كان قد قرأ الكتب، وكان يخبر الناس بصفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث؛ كفر به.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى فانسلخ منها : نزع منه العلم الذي كان يعلمه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو شئنا لرفعناه بها أي: بالآيات، فحلنا بينه وبين المعصية.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكنه أخلد إلى الأرض أي: ركن إليها، عن ابن جبير ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : سكن إليها؛ أي: سكن إلى لذاتها، وأصل (الإخلاد): اللزوم؛ فكأن المعنى: لزم لذات الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث : معنى إن تحمل عليه : إن تطرده؛ فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده، فضرب الله المثل لهذا الذي لم ينتفع بالآيات بالكلب، فكما أن الكلب يلهث، ولا ينتفع بترك الحمل عليه؛ فكذلك هذا الذي أوتي الآيات، فلم ينتفع بها.

                                                                                                                                                                                                                                      الكلبي: المعنى: أنه ضال، وعظته أو لم تعظه.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : كان بلعم بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب، وهذا المثل في قول كثير من أهل التأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به، وقيل: هو [ ص: 129 ] في كل منافق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا أي: ساء مثلا مثل القوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس : في هذه الآية دليل على أن الله تعالى قضى على الكافر بكفره، وخلقه لغير عبادته؛ لأنه لا يذرأ لجهنم من خلقه لعبادته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لهم قلوب لا يفقهون بها إلى آخر الآية: قد تقدم القول في مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى بل هم أضل أي: أضل من الأنعام؛ لأنها تبصر منافعها ومضارها، وهم لا يبصرون ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى : قد ذكرت الأسماء التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسما، من أحصاها؛ دخل الجنة" في "الكبير".

                                                                                                                                                                                                                                      وذروا الذين يلحدون في أسمائه : قيل: هو تسميتهم (اللات) من اسم (الله) تعالى، و (العزى) من (العزيز)، عن ابن عباس ، ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو تسميتهم الأوثان آلهة، وتسميتهم الله عز وجل أب المسيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل (الإلحاد): الميل.

                                                                                                                                                                                                                                      وممن خلقنا أمة يهدون بالحق : هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، روي ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 130 ] سنستدرجهم من حيث لا يعلمون أي: سنظهر لهم النعم، على تماديهم في كفرهم؛ ليغتروا بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأملي لهم أي: أطيل لهم، وأؤخر عقوبتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      إن كيدي متين أي: شديد قوي، وأصله من (المتن) ؛ وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب.

                                                                                                                                                                                                                                      أولم يتفكروا أي: أولم يتفكروا فيما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، والوقف على {يتفكروا} حسن، ثم قال: ما بصاحبهم من جنة ، رد لقولهم: يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون [الحجر: 6].

                                                                                                                                                                                                                                      أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض : [ قتادة : أي: في خلق السماوات والأرض]، و (الملكوت): من أبنية المبالغة؛ فمعناه: الملك العظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وما خلق الله من شيء : معطوف على ما قبله؛ أي: وفيما خلق الله من الأشياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم أي: وفى آجالهم التي عسى أن تكون قد اقتربت، وهم يسوفون بالتوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      فبأي حديث بعده يؤمنون أي: بعد القرآن، وقيل: بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن تكون (الهاء) للأجل؛ على معنى: فبأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 131 ] [ ص: 132 ] [ ص: 133 ] وقيل: لو كنت أعلم ما يريده الله تعالى مني؛ لعملته قبل أن أؤمر به.

                                                                                                                                                                                                                                      وما مسني السوء أي: ما بي جنون كما تنسبون إلي، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: لاستكثرت من الخير، وما مسني الفقر؛ لاستكثاري من الخير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية