الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه - مريم - التهاويل . . يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته ; ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته ، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه ; وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن ; وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات ، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات :

                                                                                                                                                                                                                                      إذ قال الله: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك. إذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلا. وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني. وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني. وإذ تخرج الموتى بإذني. وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم: إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه . . من تأييده بروح القدس في مهده ، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام ; يبرئ أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال ; ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله . . وروح القدس جبريل - عليه السلام - يؤيده هنا وهناك . . ومن تعليمه الكتاب والحكمة ; وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئا ، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور ، كما علمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل ، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقا لما بين يديه من التوراة . ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله . فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله ; فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله - لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة ، وكيف يبث الحياة في الأحياء - وإذا هو يبرئ المولود أعمى - بإذن الله - حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر - ولكن الله الذي يهب البصر أصلا قادر على أن يفتح عينيه للنور - ويبرئ الأبرص بإذن الله ، لا بدواء - والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء ، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة ، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة - وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله - وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء - ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين ! ذلك أنهم [ ص: 998 ] لم يستطيعوا إنكار وقوعها - وقد شهدتها الألوف - ولم يريدوا التسليم بدلالتها عنادا وكبرا . . حمايته منهم فلم يقتلوه ، كما أرادوا ولم يصلبوه . بل توفاه الله ورفعه إليه . . كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله ; فإذا هم ملبون مستسلمون ، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله :

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي. قالوا: آمنا واشهد بأننا مسلمون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم ، لتكون له شهادة وبينة . فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ ; وتصوغ منها وحولها الأضاليل ، فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى ، ومن الناس جميعا ، ومنهم قومه الغالون فيه . . ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا ; وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين !

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية