الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ طواف الحائض بالبيت ]

المثال السادس : { أن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر ، وقال : [ ص: 20 ] اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت } فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك ، وتمسك بظاهر النص ، ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام ; إذ نهي الحائض عن الجميع سواء ، ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة ، ونازعهم في ذلك فريقان ; أحدهما : صحح الطواف مع الحيض ، ولم يجعلوا الحيض مانعا من صحته ، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه ، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط ، بل جعلوها واجبة من واجباته ، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم ، والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها ، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز ، قالوا : وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له أعظم من اشتراطها للصلاة ، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى ، قالوا : وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن ، ولهذا { قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت أحابستنا هي ؟ قالوا : إنها قد أفاضت ، قال فلتنفر إذا } وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها ، فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام ; أحدها أن يقال لها : أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي ، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه ; الثاني أن يقال : يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه .

الثالث : أن يقال : إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته ; الرابع أن يقال : إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية ، الخامس أن يقال : بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ، ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه ; السادس أن يقال : بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر ، مع بقاء الحج في ذمتها ، فمتى قدرت على الحج لزمها ; ثم إذا أصابها [ ص: 21 ] ذلك أيضا تحللت ، وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا ; السابع أن يقال : يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب ، وقد أجزأ عنها الحج ، وإن انقطع حيضها بعد ذلك ; الثامن أن يقال : بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج .

ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص ، وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم ، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها ، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها ، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه ، وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي ، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا ; فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها ، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن ; فإن القسم الأول وإن قاله من قال من الفقهاء فلا يتوجه ههنا ; لأن هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف ، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله ، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره ، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى ، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة ، بل قد ذكروا أن المكري يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف ، فإنه كان ممكنا بل واقعا في زمنهم ، فأفتوا ، بأنها لا تطوف حتى تطهر لتمكنها من ذلك ، وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال ، فأما في هذه الأزمان فغير ممكن .

وإيجاب سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدر منه يتضمن إيجاب حجتين إلى البيت ، والله تعالى إنما أوجب حجة واحدة ، بخلاف من أفسد الحج فإنه قد فرط بفعل المحظور ، وبخلاف من ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم حجته ، وأما هذه فلم تفرط ولم تترك ما أمرت به فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه ، وقد فعلت ما تقدر عليه ; فهي بمنزلة الجنب إذا عجز عن الطهارة الأصلية والبدلية وصلى على حسب حاله ، فإنه لا إعادة عليه في أصح الأقوال ، وأيضا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية فإذا قيل إنها تبقى محرمة إلى أن تموت ، فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإسلام ، بل يعلم بالضرورة أن الشريعة لا تأتي به .

فصل

وأما التقدير الثاني - وهو سقوط طواف الإفاضة - فهذا مع أنه لا قائل به فلا يمكن القول به ; فإنه ركن الحج الأعظم ، وهو الركن المقصود لذاته ، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له . [ ص: 22 ]

فصل

وأما التقدير الثالث - وهو أن تقدم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت الحيض في وقته - فهذا لا يعلم به قائل ، والقول به كالقول بتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة ، وكلاهما مما لا سبيل إليه .

فصل

وأما التقدير الرابع - وهو أن يقال يسقط عنها فرض الحج إذا خشيت ذلك - فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر - كما لو كان بالطريق أو بمكة خوف ، أو أخذ خفارة مجحفة أو غير مجحفة على أحد القولين ، أو لم يكن لها محرم - ولكنه ممتنع لوجهين ; أحدهما : أن لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء أو أكثرهن ; فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر ، وهذا باطل ; فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها ، وغاية هذه أن تكون قد عجزت عن شرط أو ركن ، وهذا لا يسقط المقدور عليه ، قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان ، وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه ; والطواف والسعي إذا عجز عنه ماشيا فعله راكبا اتفاقا ، والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه .

الوجه الثاني : أن يقال في الكلام فيمن تكلفت وحجت وأصابها هذا العذر : فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ ؟ فإما أن يقول : تبقى محرمة حتى تعود إلى البيت ، أو يقول : تتحلل كالمحصر وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل ، ولا تقتضيه الشريعة ; فإنها لا تسقط مصلحة الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمر غايته أن يكون واجبا في الحج أو شرطا فيه ; فأصول الشريعة تبطل هذا القول .

فصل

وأما التقدير الخامس - وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل ، ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك ، وهكذا كل عام - فمما ترده أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان ; فإن الله لم يجعل على الأمة على مثل هذا الحرج ، ولا ما هو قريب منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية