الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 208 ] المسألة الثامنة

              من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار ; فعن الحسن مما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن ، وكل حرف حد ، وكل حد مطلع .

              وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والباطن هو الفهم عن الله لمراده ; لأن الله تعالى قال : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ النساء : 78 ] والمعنى : لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، كيف وهو منزل بلسانهم ؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام ، وكأن هذا هو معنى ما روي عن علي أنه سئل : هل عندكم كتاب ؟ [ ص: 209 ] فقال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة الحديث ، وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث ; إذ قال : الظهر هو الظاهر والباطن هو السر .

              وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فظاهر المعنى شيء ، وهم عارفون به ; لأنهم عرب والمراد شيء آخر ، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله ، وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة ; فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه ، ولما قالوا في الحسنة : هذه من عند الله [ النساء : 78 ] وفي السيئة : هذا من عند رسول الله ، بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا ، ولكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله الآية [ النساء : 79 ] . وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ محمد : 24 ] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ; فلم يحصل منهم تدبر ، قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين : [ ص: 210 ] أحدهما : يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل والآخر : يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي .

              وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ; فصحيح ولا نزاع فيه ، وإن أرادوا غير ذلك ; فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم ; فلابد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب ، فلا يكون ظنيا ، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل ، وإذا تقرر هذا ; فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله .

              وله أمثلة تبين معناه بإطلاق ; فعن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية : إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، وقرأ [ ص: 211 ] السورة إلى آخرها فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ، فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه ، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه .

              ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] فرح الصحابة وبكى عمر ، وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فما عاش بعدها إلا إحدى وثمانين يوما [ ص: 212 ] وقال تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا الآية [ العنكبوت : 41 ] قال الكفار : ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ؟ ما هذا الإله ; فنزل إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] فأخذوا بمجرد الظاهر ، ولم ينظروا في المراد فقال تعالى : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية [ البقرة : 26 ] ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا ، واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل ، وترك ما هو مقصود منها ، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى ، وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير .

              ولما قال تعالى : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] نظر الكفار إلى ظاهر العدد ; فقال أبو جهل فيما روي لا يعجز كل عشرة منكم أن [ ص: 213 ] يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله : وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] وقال : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية [ لقمان : 6 ] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ، ناظره الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله .

              وقال تعالى في المنافقين : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله [ الحشر : 13 ] ، [ ص: 214 ] وهذا عدم فقه منهم ; لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وأنه هو مصرف الأمور ; فهو الفقيه ، ولذلك قال تعالى : ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [ الحشر : 13 ] وكذلك قوله تعالى : صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون [ التوبة : 127 ] لأنهم نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم ; فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر ، وعدم اعتبارهم للمراد منه ، وإذا أثبت ذلك ; فهو لفهمهم مراد الله من خطابه ، وهو باطنه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية