الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن كان له دين نظرت فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته ; لأن ملكه غير تام عليه ، فإن العبد يقدر أن يسقطه ، وإن كان لازما نظرت - فإن كان على مقر مليء - لزمه زكاته ، لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة ، وإن كان على مليء جاحد ، أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب وفيه قولان ، وقد بيناه في زكاة الماشية ، وإن كان له دين مؤجل ، ففيه وجهان قال أبو إسحاق : هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد فيكون على قولين وقال أبو علي بن أبي هريرة : لا تجب فيه الزكاة ، فإذا قبضه استقبل به الحول ; لأنه لا يستحقه . ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا ، والأول أصح ، لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه ، وإن كان له مال غائب - فإن كان مقدورا على قبضه - وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب ) .

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 506 ] الشرح ) قال أصحابنا : الدين ثلاثة أقسام : ( أحدها ) غير لازم كمال الكتابة ، فلا زكاة فيه بلا خلاف لما ذكره المصنف ، ( الثاني ) أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة إنسان أربعون شاة سلما أو قرضا ، فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف ، لأن شرط زكاة الماشية السوم ، ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة .

                                      ( الثالث ) أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة ، وهو مستقر ، ففيه قولان مشهوران ، " القديم " : لا تجب الزكاة في الدين بحال لأنه غير معين " ، والجديد " الصحيح باتفاق الأصحاب : وجوب الزكاة في الدين على الجملة ، وتفصيله أنه إن تعذر استيفاؤه لإعسار من عليه أو جحوده ولا بينة أو مطله أو غيبته فهو كالمغصوب وفي وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية ، والصحيح وجوبها . وقيل : تجب في الممطول . والدين على مليء غائب بلا خلاف . وإنما الخلاف فيما سواهما ، وبهذا الطريق قطع صاحب الحاوي وغيره وليس كذلك بل المذهب طرد الخلاف . فإن قلنا بالصحيح وهو الوجوب لم يجب الإخراج قبل حصوله بلا خلاف ولكن في يده أخرج عن المدة الماضية . هذا معنى الخلاف . وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو كان القاضي يعلمه وقلنا : القاضي يقضي بعلمه فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب إخراجها في الحال ، وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما ) عند المصنف والأصحاب أنه على القولين في المغصوب ، ( أصحهما ) تجب الزكاة ، ( والثاني ) لا تجب وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي .

                                      ( والطريق الثاني ) طريقة ابن أبي هريرة لا زكاة فيه قولا واحدا ، كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره ; فإن قلنا بوجوب الزكاة ، فهل يجب إخراجها في الحال ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( أصحهما ) [ ص: 507 ] لا يجب ، وبه قطع الجمهور كالمغصوب . قال إمام الحرمين : ولأن الخمسة نقدا تساوي ستة مؤجلة ، ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا تساوي خمسة مؤجلة ، فوجب تأخير الإخراج إلى القبض ، قال : ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه ، ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها ; لأن شرط أداء الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا ، والله تعالى أعلم .



                                      وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع خبره فهو كالمغصوب ، هكذا قال المصنف والجمهور ، وقيل : تجب الزكاة قطعا ; لأن تصرفه فيه نافذ بخلاف المغصوب ، ولا خلاف أنه لا يجب الإخراج عنه قبل عوده وقبضه ، وإن كان مقدورا على قبضه وجبت الزكاة منه بلا خلاف ، ووجب إخراجها في الحال بلا خلاف ويخرجها في بلد المال ، فإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة . هذا إذا كان المال مستقرا فإن كان سائرا غير مستقر لم يجب إخراج زكاته قبل أن يصل إليه ، فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف ، هذا هو الصواب في مسألة الغائب ، وما وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه ، ومما يظن مخالفا قول المصنف ( فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة ، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه ) وهكذا قاله ابن الصباغ ، وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر ، هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره ، وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال ، وهو محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد ، والله تعالى أعلم .



                                      قال أصحابنا : كل دين وجب إخراج زكاته قبل قبضه ، وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لإكمال النصاب ، ويلزمه إخراج زكاتهما في الحال ، وكل دين لا يجب إخراج زكاته قبل قبضه ، ويجب بعد قبضه فإن كان معه من جنسه مالا يبلغ وحده نصابا ، ويبلغ بالدين نصابا فوجهان مشهوران ( أحدهما ) وبه قطع صاحب البيان : لا يلزمه زكاة ما معه في الحال ، فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي ( وأصحهما ) عند الرافعي وغيره يجب إخراج قسط ما معه . قالوا : وهما مبنيان على أن التمكن [ ص: 508 ] شرط في الوجوب أو في الضمان إن قلنا بالأول لا يلزمه لاحتمال أن لا يحصل الدين وإن قلنا بالثاني لزمه . والله تعالى أعلم .



                                      وكل دين لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي ، بل يستأنف له الحول إذا قبض ، فهذا لا يتم به نصاب ما معه ، وإذا قبضه لا يزكيها عن الماضي بلا خلاف ، بل يستأنف لهما الحول ، والله تعالى أعلم .



                                      أما إذا كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة ، فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضر في الحال في موضعها وإن لم يكن مقدورا عليه ، فإن قلنا : لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة في الحاضر لنقصه عن النصاب . وإن قلنا : يجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال ؟ فيه الوجهان السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب ، أما الضمان فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها فيه ، وفي الغائب إن عاد وإلا فلا .




                                      الخدمات العلمية