الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فإن قاد قطارا فما أصاب الأول أو الآخر أو الأوسط إنسانا بيد أو رجل أو صدم إنسانا فقتله - فهو ضامن لذلك ; لأنه فعل فعلا هو سبب حصول التلف فيضمن ، وهو مما يمكن الاحتراز عنه ، كما إذا وضع حجرا في الطريق أو حفر فيه بئرا ، فإن كان معه سائق في آخر القطار - فالضمان عليهما ; لأن كل واحد منهما سبب التلف ، وإن كان السائق في وسط القطار فما أصاب مما خلف هذا السائق وما بين يديه شيئا - فهو عليهما ; لأن ما بين يديه هو له سائق ، والأول له قائد ، وما خلفه هما له قائدان ( أما ) قائد القطار فلا شك فيه ; لأن بعضه مربوط ببعض .

                                                                                                                                ( وأما ) السائق الذي في وسط القطار فلأنه بسوقه ما بين يديه قائد لما خلفه لأن ما خلفه ينقاد بسوقه ، فكان قائدا له ، والقود والسوق كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان لما بينا ، وإن كان أحيانا في وسط القطار ، وأحيانا يتأخر ، وأحيانا يتقدم ، وهو يسوقها في ذلك - فهو والأول سواء ; لأنه سائق وقائد والسوق والقود كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان ، وإن كانوا ثلاثة أحدهم في مقدمة القطار ، والآخر في مؤخرة القطار ، وآخر في وسطه ، فإن كان الذي في الوسط والمؤخر لا يسوقان ، ولكن المقدم يقود فما أصاب الذي قدام الوسط شيئا فذلك كله على القائد ; لأن التلف حصل بسبب القود ، وما أصاب الذي خلفه - فذلك على القائد الأول وعلى الذي في الوسط ; لأنهما قائدان لما بينا وعلى المؤخر أيضا إن كان يسوق هو ، وإن كان لا يسوق لا شيء عليه ; لأنه لم يوجد منه صنع ، وإن كانوا جميعا يسوقون فما تلف بذلك فضمانه عليهم جميعا لوجود التسبيب منهم جميعا ، وذكر محمد - رحمه الله - في الكيسانيات لو أن رجلا يقود قطارا ، وآخر من خلف القطار يسوقه يزجر الإبل فينزجرن بسوقه ، وعلى الإبل قوم في المحامل نيام ، فوطئ بعير منها إنسانا فقتله فالدية على عاقلة القائد والسائق والراكب على البعير الذي وطئ ، وعلى الراكبين على الذين قدام البعير الذي وطئ على عواقلهم جميعا على عدد الرءوس ، والكفارة على راكب البعير الذي وطئ خاصة ، أما السائق والقائد فلأنهما مقربان القطار إلى الجناية ، فكانا مسببين للتلف .

                                                                                                                                ( وأما ) الراكب للبعير الذي وطئ فلا شك فيه ; لأن التلف حصل بفعله [ ص: 281 ] وأما ) الراكبون أمام البعير الذي وطئ فلأنهم قادة لجميع ما خلفهم ، فكانوا قائدين للبعير الواطئ ضرورة ، فكانوا مسببين للتلف أيضا فاشتركوا في سبب وجوب الضمان فانقسم الضمان عليهم .

                                                                                                                                وإنما كانت الكفارة على راكب البعير الذي وطئ خاصة ; لأنه قاتل بالمباشرة لحصول التلف بثقله وثقل الدابة إلا أن الدابة آلة له ، فكان الأثر الحاصل بفعله مضافا إليه ، فكان قاتلا بالمباشرة ، ومن كان من الركبان خلف البعير الذي وطئ لا يزجر الإبل ، ولا يسوقها راكبا على بعير منها أو غير راكب - فلا ضمان على أحد منهم ; لأنه لم يوجد منهم سبب وجوب الضمان ; إذ لم يسرقوا البعير الذي وطئ ، ولم يقودوه فصاروا كالمتاع على الإبل ، ولو قاد قطارا ، وعلى بعير في وسط القطار راكب لا يسوق منه شيئا - فضمان ما كان بين يديه على القائد خاصة ، وضمان ما خلفه عليهما جميعا ; لأن الراكب غير سائق لما بين يديه ; لأن ركوبه لهذا البعير لا يكون سوقا لما بين يديه كما أن مشيه إلى جانب البعير لا يكون سوقا إياه إذا لم يسقه ، ولكنه سائق لما ركبه ; لأن البعير إنما يسير بركوب الراكب وحثه ، وإذا كان سائقا له كان قائدا لما خلفه ، فكان ضمانه عليهما .

                                                                                                                                وإذا كان الرجل يقود قطارا ، فجاء رجل ، وربط إليه بعيرا فوطئ البعير إنسانا - فالقائد لا يخلو : إما إن كان لا يعلم بربطه ، وإما إن علم ذلك ، فإن لم يعلم فالدية على القائد تتحمل عنه عاقلته ثم عاقلته يرجعون على عاقلة الرابط ( أما ) وجوب الدية على القائد فلأنه قاتل تسبيبا ، وضمان القتل ضمان إتلاف وإنه لا يختلف بالعلم والجهل ( وأما ) رجوع عاقلة القائد على عاقلة الرابط فلأن الرابط متعد في الربط ، وهو السبب في لزوم الضمان للقائد ، فكان الرجوع عليه ، وكذلك لو كانت الإبل وقوفا لا تقاد ، فجاء رجل وربط إليها بعيرا ، والقائد لا يعلم فقاد البعير معها فوطئ البعير إنسانا فقتله فالدية على القائد يتحمل عنه عاقلته إلا أن ههنا لا ترجع عاقلة القائد على عاقلة الرابط ; لأن الرابط ، وإن تعدى في الربط ، وأنه سبب لوجوب الضمان لكن القائد لما قاد البعير عن ذلك المكان فقد أزال تعديه فيزول الضمان عنه ، ويتعلق بالقائد كمن وضع حجرا في الطريق ، فجاء إنسان فدحرجه عن ذلك المكان ثم عطب به إنسان - فالضمان على الثاني لا على الأول لما قلنا كذا هذا ، بخلاف المسألة الأولى ; لأن هناك وجد الربط والإبل سائرة ، فلم يستقر مكان التعدي ; ليزول بالانتقال عنه فبقي التعدي ببقاء الربط ، وإن كان القائد علم بالربط في المسألتين جميعا فقاده على ذلك فوطئ البعير إنسانا فقتله فالدية على القائد تتحمل عنه عاقلته ولا ترجع عاقلته على عاقلة الرابط ; لأنه لما قاد مع علمه بالربط فقد رضي بما لحقه من العهدة في ذلك فصار علمه بالربط بمنزلة أمره بالربط ، ولو ربط بأمره كان الأمر على ما وصفنا كذا هذا .

                                                                                                                                ولو سقط سرج دابة فعطب به إنسان فالدية على السائق أو القائد ; لأن السقوط لا يكون إلا بتقصير منه في شد الحزام ، فكان مسببا للقتل متعديا في التسبيب والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية