الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                ص: وقالوا: ليس في هذا الأثر دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى ; لأن قول النبي - عليه السلام -: " من أدرك من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك " قد يحتمل ما قال أهل المقالة الأولى، ويحتمل أن يكون عنى به الصبيان الذي يبلغون قبل طلوع الشمس، والحيض اللاتي يطهرن، والنصارى الذين يسلمون ; لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة، فيكون هؤلاء الذي سميناهم ومن أشبههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الذي بقي عليهم من وقتها أقل من المقدار الذي يصلونها فيه.

                                                قالوا: وهذا الحديث هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والنصارى إذا أسلموا والحيض إذا طهرن وقد بقي عليهم من وقت الصبح [ ص: 220 ] مقدار ركعة أنهم لها مدركين فلم نخالف هذا الحديث، وإنما خالفنا تأويل أهل المقالة الأولى.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قال الآخرون: ليس في هذا الحديث دلالة على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى ; لأنه محتمل للمعنيين المذكورين، وبالاحتمال لا يتم الاحتجاج.

                                                فإن قيل: ما الدليل على الاحتمال الثاني؟

                                                قلت: ذكر لفظة الإدراك وهو قوله: "أدرك" بدون أن يقول: أدرك الصلاة، فيكون المعنى حينئذ: فقد أدرك وجوب الصلاة، فيكون الصبيان والحيض والكفار ومن شابههم مدركين لهذه الصلاة ويجب عليهم قضاؤها، وإن كان الباقي من الوقت أقل من وقت أداء الصلاة فيه.

                                                وقال أبو عمر : اختلف العلماء في معنى قوله: "فقد أدرك"، فقالت طائفة من أهل العلم: أراد بقوله ذلك: أدرك وقتها، حكي ذلك عن داود بن علي وأصحابه قالوا: إذا أدرك الرجل من الظهر أو العصر ركعة وقام فصلى الثلاث ركعات فقد أدرك الوقت في جماعة وثوابه على الله -عز وجل-.

                                                وقال الآخرون: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك فضل الجماعة ; لأن صلاته صلاة جماعة في فضلها وحكمها، واستدلوا على ذلك من أصولهم بأنه لا يعتد في جماعة من أدرك ركعة من صلاة الجماعة.

                                                وقال آخرون: معنى هذا الحديث أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها وهو كمن أدرك جميعها فيما يفوته من سهو الإمام وسجوده لسهوه، ولو أدرك الركعة مسافر من صلاة مقيم لزمه حكم صلاة المقيم، وكان عليه الإتمام، ونحو من هذا في حكم الصلاة.

                                                قال أبو عمر -رحمه الله-: ظاهر قوله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" يوجب الإدراك للوقت والحكم والفضل إن شاء الله تعالى إذا صلى [ ص: 221 ] تمام الصلاة، ألا ترى أن من أدرك الإمام راكعا فدخل معه وركع قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركعة أنه يدرك عند الجمهور حكم تلك الركعة، وأنه كمن ركعها من أول الإحرام مع إمامه، وكذلك مدرك ركعة من الصلاة مدرك لها، وقد أجمع علماء المسلمين أن مدرك ركعة من صلاته لا تجزئه ولا تغنيه عن إتمامها، ودل أن قوله: "فقد أدرك الصلاة" ليس على ظاهره وأن فيه مضمرا بينه الإجماع والتوقيف، وهو إتمام الصلاة، والذي عليه مدار هذا الحديث وفقهه: أن مدرك ركعة من الصلاة مدرك لحكمها في السهو وغيره، وأما الفضل فلا يدرك بقياس ولا نظر ; لأن الفضائل لا تقاس. انتهى.

                                                ثم اعلم أن قوله: "لأنه لما ذكر في هذا الإدراك ولم يذكر الصلاة" إشارة إلى أن هذا الحديث قد روي على وجهين، في وجه روي: "فقد أدرك الصلاة"، وفي وجه روي: "فقد أدرك" فقط بدون لفظة الصلاة.

                                                وقال أبو عمر في "التمهيد": لا أعلم اختلافا في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه عند رواة "الموطأ" عن مالك ، وكذلك رواه سائر أصحاب ابن شهاب ، إلا ابن عيينة رواه عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" لم يقل الصلاة.

                                                قوله: "قالوا: وهذا الحديث. . . " إلى آخره، أي قال الآخرون: هذا الحديث -أعني حديث أبي هريرة - هو الذي ذهبنا فيه إلى أن المجانين إذا أفاقوا والصبيان إذا بلغوا والكفار إذا أسلموا والحيض -بضم الحاء جمع حائض- إذا طهرن، والحال أنه قد بقي عليهم من وقت الصبح مقدار ركعة أنهم يكونون لها مدركين، وأشار بهذا الكلام إلى أنهم عملوا بهذا الحديث في هذه الصورة وما تركوه، وهو معنى قوله: "فلم نخالف هذا الحديث" وإنما خالفوا تأويل أهل المقالة الأولى في قولهم: إن المدرك من صلاة الصبح ركعة قبل طلوع الشمس يضم إليها ركعة ولا يضره طلوع الشمس في أثنائها.




                                                الخدمات العلمية