الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال قال معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله ولا ينفع ذا الجد منه الجد من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ثم قال معاوية سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد

                                                                                                          وحدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أنه كان يقال الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي الذي لا يعجل شيء أناه وقدره حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى

                                                                                                          وحدثني عن مالك أنه بلغه أنه كان يقال إن أحدا لن يموت حتى يستكمل رزقه فأجملوا في الطلب

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1667 1619 - ( مالك عن يزيد بن زياد ) بن أبي زياد وقد ينسب لجده المخزومي ، مولاهم المدني الثقة ( عن محمد بن كعب القرظي ) المدني الثقة العالم ولد سنة أربعين على الصحيح ووهم من قال في الزمن النبوي ، فقد قال البخاري : كان أبوه ممن لم ينبت من بني قريظة ، مات محمد سنة عشرين ومائة ، وقيل : قبلها .

                                                                                                          ( قال : قال معاوية ) ولبعض الرواة عن مالك بسنده كما أفاده أبو عمر قال : سمعت معاوية ( بن أبي سفيان ) صخر بن حرب ( وهو على المنبر ) النبوي عام حج في خلافته ( أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله ) أي : لما أراد إعطاءه ، وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا يرتفع .

                                                                                                          ( ولا معطي لما منع الله ) أي : لا يمكن ذلك و " ما " موصولة ، وجملة " أعطى " صلة " ما " ، والعائد محذوف ، أي : الذي أعطاه ومنعه ، وقيل : لا مانع اسم نكرة مبني مع لا وخبرها الاستقرار المتعلق به المجرور ، أو الخبر محذوف وجوبا على لغة بني تميم وكثير من الحجازيين فيتعلق حرف الجر بمانع ، قيل : فيجب نصبه وتنوينه ; لأنه مفعول والرواية على بنائه من غير تنوين ، ووجهت بأن متعلق خبر " لا مانع " محذوف ، أي : لا مانع لنا لما أعطى ، فيتعلق بالكون المقدر لا بمانع ، كما قيل في : لا غالب لكم اليوم [ سورة الأنفال : الآية 48 ] أو يقدر لا مانع يمنع لما أعطى فيتعلق ب " يمنع " ويكون " يمنع " خبر " لا " على إحدى اللغتين .

                                                                                                          ( ولا ينفع ذا الجد منه الجد ) بفتح الجيم فيهما على المشهور ، ومنه يتعلق ب " ينفع " ، أي : لا ينفع صاحب الحظ من نزول عذابه - حظه ، إنما ينفعه عمله الصالح .

                                                                                                          [ ص: 392 ] قال ابن عبد البر : الرواية بفتح الجيم لا أعلم فيه خلافا عن مالك وهو الحظ مأخوذ من قول العرب : لفلان جد في هذا الأمر ، أي : حظ ، كقول الشاعر :


                                                                                                          أعطاكم الله جدا تنصرون به لا جد إلا صغير بعد محتقر

                                                                                                          وهو الذي تقول العامة : البخت .

                                                                                                          وقال أبو عبيد : معناه لا ينفع ذا الغنى منه غناه إنما تنفعه طاعته ، واحتج بحديث : " قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون " ، أي : أصحاب الغنى في الدنيا محبوسون يومئذ .

                                                                                                          قال : فهو كقوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ سورة الشعراء : الآية 88 ، 89 ] وقوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ سورة سبأ : الآية 37 ] وهو حسن أيضا ، وروي بكسر الجيم ، أي : الاجتهاد ، والمعنى : لا ينفع ذا الاجتهاد في طلب الرزق اجتهاده وإنما يأتيه ما قدر له ، وليس يرزق الناس على قدر اجتهاده ولكن الله يعطي من يشاء ويمنع ، وهذا وجه حسن انتهى .

                                                                                                          وقال الحافظ : الجد بفتح الجيم في جميع الروايات ومعناه الغنى كما نقله البخاري عن الحسن أو الحظ .

                                                                                                          وحكى الراغب أنه أبو الأب ، أي : لا ينفع أحدا نسبه .

                                                                                                          قال القرطبي : وحكي عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر ، وقال معناه ذا الاجتهاد اجتهاده وأنكره الطبري .

                                                                                                          قال القزاز : لأن الاجتهاد في العمل نافع لدعاء الله الخلق إليه فكيف لا ينفع عنده ؟ قال : فيحتمل أن المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع الآخرة .

                                                                                                          وقال غيره : لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده حتى يقارنه القبول وذلك إنما هو بفضل الله ورحمته .

                                                                                                          وقيل : المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإسراع في الهرب .

                                                                                                          وقال النووي : الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان ، والمعنى : لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك انتهى .

                                                                                                          ( من يرد الله ) بضم التحتية وكسر الراء من الإرادة وهي صفة مخصصة لأحد طرفي الممكن ( به خيرا ) أي : جميع الخيرات أو خيرا عظيما ( يفقهه ) أي : يجعله فقيها ( في الدين ) والفقه لغة الفهم ، والحمل عليه هنا أولى من الاصطلاحي ليعم فهم كل عام من علوم الدين ، و " من " موصول ، فيه معنى الشرط ; لأن الموصول يتضمن معناه ، ونكر " خيرا " ليفيد التعميم لأن النكرة في سياق الشرط كهي في سياق النفي ، أو التنكير للتعظيم ; لأن المقام يقتضيه ; ولذا قدر بجميع أو عظيم .

                                                                                                          ( ثم قال معاوية : سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد ) أي : أعواد المنبر النبوي ، ظاهره [ ص: 393 ] أنه سمع جميع ما ذكره منه وهذه رواية أهل المدينة ، وأما أهل العراق فيروون أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلوات ، فكتب إليه سمعته يقول خلف الصلاة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، كما في الصحيحين .

                                                                                                          وجمع ابن عبد البر بجواز أن الذي سمعه منه صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " فأشار إليه لأن ذلك ليس في حديث المغيرة ، فيجتمع بذلك الأحاديث لأنها كلها صحيحة انتهى .

                                                                                                          ويمكن عود الإشارة لجميع ما ذكره ، ولا يخالف ذلك كتابته إلى المغيرة لاحتمال أنه سمع ذلك كله منه صلى الله عليه وسلم ثم شك فسأل المغيرة فأجابه فزال بذلك شكه فحدث به عن سماعه منه عليه الصلاة والسلام هكذا ظهر لي ، ثم رأيت فتح الباري قال : زعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث ، وإنما أراد استثبات المغيرة واحتج بحديث الموطأ هذا انتهى . وهو حسن وإن عبر عنه بزعم لأنه من حيث جزمه بذلك .

                                                                                                          ( مالك : أنه بلغه أنه كان يقال ) قال الباجي : هذا يقتضي أنه من قول أئمة الشرع ; لأن مالكا أدخله في كتابه المعتقد صحته ( الحمد لله الذي خلق كل شيء ) من شأنه أن يخلق ( كما ينبغي ) أي : أحسنه وأتى به على أفضل ما يكون ، قاله الباجي ( الذي لا يعجل شيء أناه وقدره ) أي : لا يسبق وقته الذي وقته له ( حسبي الله ) كافي في جميع الأمور ( وكفى ) به كاف ( سمع الله لمن دعا ) أي : أجاب دعاءه ( ليس وراء الله مرمى ) أي : غاية يرمى إليها ، أي : تقصد بدعاء أو أمل أو رجاء تشبيها بغاية السهام .

                                                                                                          ( مالك : أنه بلغه أنه يقال ) ذكر الحسن بن علي الحلواني عن محمد بن عيسى عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق قال : كان محمد بن سيرين إذا قال كان يقال ؛ لم يشك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عبد البر : وكذا كان مالك إن شاء الله قال : وهذا الحديث جاء من وجوه حسان عن جابر وأبي حميد الساعدي وابن مسعود وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أحدا لن يموت حتى يستكمل رزقه ) الذي كتب له الملك وهو في بطن أمه فلا وجه للولد والكد والتعب والحرص فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا [ ص: 394 ] يزيد ولا ينقص بحسب علمه تعالى القديم الأزلي : نحن قسمنا بينهم معيشتهم [ سورة الزخرف : الآية 32 ] فلا يعارضه ما ورد : الصبحة تمنع الرزق والكذب ينقص الرزق ، وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، وغير ذلك مما في معناه ، أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الرزق الحلال أو البركة ، لا أصل الرزق .

                                                                                                          وللطبراني وأبي نعيم عن أبي أمامة مرفوعا : " إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها " ( فأجملوا في الطلب ) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به ، أو بأن لا تعينوا وقتا ولا قدرا لأنه تحكم على الله ، أو اطلبوا ما فيه رضا الله ، لا حظوظ الدنيا أو لا تستعجلوا الإجابة .

                                                                                                          وأخرج ابن ماجه والحاكم وصححه عن جابر رفعه : " أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم " زاد ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة : " ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته " وللبيهقي والعسكري وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا : " إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله " وللبيهقي عن جابر رفعه : " لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغه آخر الرزق فأجملوا في الطلب " وفيه : " أن الطلب لا ينافي التوكل " وأما حديث ابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه عن عمر رفعه : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " فقال الإمام أحمد : فيه ما يدل على الطلب لا القعود ، أراد لو توكلوا في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير ، ولكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم وهذا خلاف التوكل .

                                                                                                          وعن أحمد أيضا في القائل أجلس لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي : هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي " وقوله : " تغدو خماصا وتروح بطانا " وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم وبهم القدوة .




                                                                                                          الخدمات العلمية