الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ميراث المرتد اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على أنحاء ثلاثة :

فقال علي وعبد الله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وحماد والحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وشريك : " يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته " . وقال ربيعة وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى ومالك والشافعي : " ميراثه لبيت المال " . وقال قتادة وسعيد بن أبي عروبة : " إن كان له ورثة على دينه الذي ارتد إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين " ورواه قتادة عن عمر بن عبد العزيز ؛ والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين . ثم اختلفوا فيما اكتسبه في حال الردة إذا قتل أو مات مرتدا ، فقال أبو حنيفة والثوري : " ما اكتسبه بعد الردة فهو فيء " . وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين : " ما اكتسبه بعد الردة أيضا فهو لورثته [ ص: 38 ] المسلمين " .

قال أبو بكر : ظاهر قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم يقتضي توريث المسلم من المرتد ؛ إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد .

فإن قيل : يخصه حديث أسامة بن زيد : لا يرث المسلم الكافر كما خص توريث الكافر من المسلم ، وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم ، فصار في حيز المتواتر ؛ ولأن آية المواريث خاصة بالاتفاق ، وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها قيل له : في بعض ألفاظ حديث أسامة : لا يتوارث أهل ملتين لا يرث المسلم الكافر فأخبر أن المراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين ، وليست الردة بملة قائمة ؛ لأنه وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها ، فليس هو محكوما له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ، ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابي أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ؟ فثبت بذلك أن الردة ليست بملة ، وحديث أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين ؛ وقد بين ذلك في حديث مفسر ، وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال : حدثنا علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتوارث أهل ملتين شتى ، لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فدل ذلك على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو منع التوارث بين أهل ملتين وأيضا فإن أبا حنيفة من أصله أن ملك المرتد يزول بالردة ، فإذا قتل أو مات انتقل إلى الوارث ؛ ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام ، وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلما من كافر ؛ لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام ، وإنما ورث مسلما ممن كان مسلما .

فإن قيل : فإذا يكون قد ورثته منه وهو حي . قيل له : ليس يمتنع توريث الحي ، قال الله تعالى : وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وكانوا أحياء ؛ وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت ، فليس فيه توريث الحي . ويقال للسائل عن ذلك : وأنت إذا جعلت ماله لبيت المال فقد ورثت منه جماعة المسلمين وهو كافر وورثتهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتدا . وأيضا فإن المسلمين إذا كانوا إنما يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام ، وجب أن يكونوا أولى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر ، والسببان اللذان اجتمعا للورثة هو الإسلام وقرب النسب ، وأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقا للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن [ ص: 39 ] كان له إسلام .

فإن قال قائل : هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن مال الذمي بعد موته غير مستحق بالإسلام ، لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أولى به من المسلمين ، واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتد مستحق بالإسلام ، فمن قائل يقول : يستحقه جماعة المسلمين ، وآخرين يقولون : يستحقه ورثته من المسلمين ؛ فلما كان ماله مستحقا بالإسلام أشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقا بالإسلام كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين .

فإن قيل : فلو مات ذمي وترك مالا ولا وارث له من أهل دينه وله قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أولى به لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب .

قيل له : إن مال الذمي غير مستحق بالإسلام ؛ والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله ، وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أولى به منهم بل يكونون هم أولى كمواريث المسلمين ، فدل ذلك على أن مال الذمي وإن جعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقا بالإسلام وإنما هو مال لا مالك له وجده الإمام في دار الإسلام ؛ كاللقطة التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى .

فإن قيل : فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته : " إنه فيء لبيت المال " وهذا ينقض الاعتلال ويدل على أصل المسألة للمخالف . قيل له : لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف وذلك لأن ما اكتسبه في حال الردة هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكا صحيحا ، ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوما كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها ، وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام ؛ لأن الغنائم ليست بمستحقة لغانميها بالإسلام ، والدليل عليه أن الذمي متى شهد القتال استحق أن يرضخ له من الغنيمة .

فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتد الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام ، فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرنا في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام ؛ لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحا إلى أن ارتد ثم زال ملكه عنه بالردة ، فمن يستحقه من الناس فإنما يستحقه بالميراث والمواريث يعتبر فيها الإسلام وقرب النسب إذا كان ملكا لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت ، فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة . ولا يجوز [ ص: 40 ] أيضا أن يكون أصلا للمال المكتسب في حال الإسلام ؛ لأن ملكه فيه كان صحيحا إلى أن زال عنه الموت ، والمال المكتسب في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح ؛ لأنه اكتسبه وهو مباح الدم ، فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوما ، بمنزلة حربي دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع ماله أن ماله يكون غنيمة ، فكذلك مال المرتد الذي اكتسبه في حال الردة .

فإن احتج محتج بحديث البراء بن عازب قال : مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت : إلى أين تذهب ؟ فقال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وهذا يدل على أن مال المرتد فيء . قيل له : إنما فعل ذلك ؛ لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنوما ؛ لأن الراية إنما تعقد للمحاربة ؛ وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله ، وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس .

فإن قيل : ما أنكرت أن يكون مال المرتد مغنوما ؟ قيل له : أما ما اكتسبه في حال الردة فهو كذلك ، وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوما ، من قبل أن ما كان يغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة ، كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحا ، فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذا كانت أملاكهم فيه صحيحة ، وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقه ورثته دون سائر المسلمين ؛ لأن سائر المسلمين إن استحقوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أولى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم ، وإن استحقوه بأنه غنيمة لم يصح ذلك لما بينا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل .

واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث ، فقال علي بن أبي طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابن له كافر أو كان عبدا فأعتق : " إنه لا شيء له " ، وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبي الزناد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والشافعي . وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا : " من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث " ، وهو مذهب الحسن وأبي الشعثاء ؛ وشبهوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ، ما طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قسم على حكم الإسلام ولم يعتبر وقت الموت ؛ وليس هذا عند الأولين كذلك ؛ لأن حكم [ ص: 41 ] المواريث قد استقر في الشرع على وجوه معلومة ، وقال الله تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم وقال : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك فأوجب لها الميراث بالموت ، وحكم لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة ، والقسمة إنما تجب فيما قد ملك ، فلا حظ للقسمة في استحقاق الميراث ؛ لأن القسمة تبع للملك ؛ ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة . وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع ، فلما طرأ الإسلام حملت على أحكام الشرع ؛ إذ لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرا ثابتا ، فعفي لهم عما قد اقتسموه وحمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عفي لهم عن الربا المقبوض ، وحمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضا على حكم الشرع ، فأبطل وأوجب عليهم رد رأس المال ، ومواريث الإسلام قد ثبتت واستقر حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها ، كما أن عقود الربا لو أوقعت في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجمع .

وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته ، وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت ، فكذلك من أسلم أو أعتق بعد الموت قبل القسمة فلا حظ له في الميراث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية