الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم .

أمر بالتقوى لأنها ملاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق ، وقوله : ويعلمكم الله تذكير بنعمة الإسلام الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعد بدوام ذلك لأنه جيء فيه بالمضارع ، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أن التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إن الواو فيه للتعليل أي : ليعلمكم ، وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح .

وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث لقصد التنويه بكل جملة منها حتى تكون مستقلة الدلالة ، غير محتاجة إلى غيره المشتمل على معاد ضميرها ، حتى إذا سمع السامع كل واحدة منها حصل له علم مستقل ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في فهم أخراها ، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي :


اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا     واللؤم داء لوبر يقتلون به
لا يقتلون بداء غيره أبدا

فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومن ولدها ، وما ولدته ، أظهر اللؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها ، هذا ، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى ، وهي التهويل ، وللتكرير مواقع يحسن فيها ، ومواقع لا يحسن فيها ، قال الشيخ في دلائل الإعجاز ، في الخاتمة التي ذكر فيها أن الذوق قد يدرك أشياء لا يهتدى لأسبابها ، وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل : ومن ذلك [ ص: 119 ] ما حكي عن الصاحب أنه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره ، قال الصاحب فدفع إلي القصيدة التي أولها :


أتحت ضلوعي جمرة تتوقد     على ما مضى أم حسرة تتجدد

وقال لي تأملها ، فتأملتها فوجدته قد ترك خير بيت لم ينقط عليه وهو قوله :


بجهل كجهل السيف والسيف منتضى     وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

فقلت : لم ترك الأستاذ هذا البيت ؟ فقال : لعل القلم تجاوزه ، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرا من تركه ، فقال : إنما تركته لأنه أعاد السيف أربع مرات ، قال الصاحب : لو لم يعده لفسد البيت ، قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب . ثم قال : قاله أبو يعقوب : إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف ؛ لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وقوله : قل هو الله أحد الله الصمد عمل لولاه لم يكن .

وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :

فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل : لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى ، ثم قال : إن التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم ، أو التحقير ، في جمل متواليات ، كل جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى ، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير ، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد ، وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد ، قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد :


    لما رأيت الشيب لاح بياضه
بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا

كان الواجب أن يقول : قلت له مرحبا . لكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم .

[ ص: 120 ] واعلم أنه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كل مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرر ، كما تقدم في بيتي الحماسة :

اللؤم أكرم من وبر

. . .

إلخ .

وقد وقع التكرير متعاقبا في قوله تعالى في سورة آل عمران : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية