الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فأصبح يقلب كفيه ) وهو كناية عن الندم والحسرة ، فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى ، وقد يمسح إحداهما على الأخرى ، وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله : ( وهي خاوية على عروشها ) أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم ، فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ، ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران ، وحاصل الكلام : أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها ، ثم قال تعالى : ( ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ) والمعنى أن المؤمن لما قال : ( لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ) فهذا الكافر تذكر كلامه وقال : ( ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ) فإن قيل : هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ) ( الزخرف : 33 ) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل " ، وأيضا فلما قال : ( ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ) فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمنا ، فلم قال بعده : ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السؤال الأول : أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضا في كل عمره عن طلب الدين ، فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه ، فلهذا السبب عظمت حسرته .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن السؤال الثاني : أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحدا غير مشرك لبقيت عليه جنته ، فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب [ ص: 110 ] الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولا عند الله ثم قال تعالى : ( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ) وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي : ( ولم يكن له فئة ) بالياء لأن قوله : ( فئة ) جمع فإذا تقدم على الكناية جاز التذكير ؛ ولأنه رعاية للمعنى ، والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق ؛ لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : المراد من قوله : ( ينصرونه من دون الله ) هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله ؛ أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ، ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ، ثم قال تعالى : ( هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : في لفظ الولاية ، ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو ، وفي قراءة الباقين بالفتح . وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : كسر الواو لحن ، قال صاحب الكشاف : الولاية بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قرأ أبو عمرو والكسائي قوله : (الحق) بالرفع ، والتقدير : هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقبا بضم القاف ، وقرأ عاصم وحمزة (عقبى) بتسكين القاف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( هنالك الولاية لله ) فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر ، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال : ( هنالك الولاية لله الحق ) أي في مثل ذلك الوقت ، وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم ، فقوله : هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه فيهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني في التأويل : أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجئ إليه كل محتاج مضطر ، يعني أن قوله : ( ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ) كلمة ألجئ إليها ذلك الكافر ، فقالها جزعا مما ساقه إليه شؤم كفره ، ولولا ذلك لم يقلها .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : المعنى : هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني : أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله : ( فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء ) ويعضده قوله : ( هو خير ثوابا وخير عقبا ) أي لأوليائه .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الرابع : أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله ، كقوله ( لمن الملك اليوم لله ) ثم قال تعالى : ( هو خير ثوابا ) أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه : ( وخير عقبا ) أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه ، وقد ذكرنا أنه قرئ (عقبى) بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى ، وكلها بمعنى العاقبة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية