الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة [ البقرة : 35 ] قال : لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي : لا تهتم بشيء هو غيري قال : فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ; لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست [ ص: 246 ] به نفسه ; فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به .

              وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول ، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأكل تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به .

              وأيضا ; فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب ، وهو إما التناول والأكل ، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمة ; فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه ; فهذا التفسير له وجه ظاهر ، فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ; إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده ، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان ، وذلك الخلد المدعى ; أضاف الله إليه لفظ العصيان ، ثم تاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم [ ص: 247 ] ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس الآية [ آل عمران : 96 ] باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته .

              وهذا التفسير يحتاج إلى بيان ; فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ، ولا يلائمه مساق بحال ; فكيف هذا ؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن ; فزال الإشكال إذا ، وبقي النظر في هذه الدعوى ، ولا بد إن شاء الله من بيانها ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى : يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] [ ص: 248 ] قال " رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية " وهو أيضا من قبيل ما قبله ، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] وقال في قوله تعالى : والجار ذي القربى الآية [ النساء : 36 ] أما باطنها فهو القلب والجار الجنب [ النساء : 36 ] : النفس الطبيعي والصاحب بالجنب [ النساء : 36 ] العقل المقتدي بعمل الشرع وابن السبيل [ النساء : 36 ] الجوراح المطيعة لله عز وجل .

              وهو من المواضع المشكلة في كلامه ، ولغيره مثل ذلك أيضا ، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء ، وغير ذلك لا يعرفه العرب ، لا من آمن منهم ولا من كفر ، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ، ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، ولا هم أعرف بالشريعة منهم ، ولا أيضا [ ص: 249 ] ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ، لا من مساق الآية ; فإنه ينافيه ولا من خارج ; إذ لا دليل عليه كذلك ، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم .

              وقال في قوله : صرح ممرد من قوارير [ النمل : 44 ] الصرح نفس الطبع ، والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى ، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده .

              وفي قوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] أي : قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون ، والبيوت القلوب ; فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر .

              وفي قوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ الروم : 50 ] قال : حياة القلوب بالذكر وقال في قوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر الآية [ الروم : 41 ] مثل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبر ، ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات ، هذا باطنه .

              وقد حمل بعضهم قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه [ البقرة : 114 ] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله .

              [ ص: 250 ] ونقل في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] أن باطن النعلين هو الكونان : الدنيا ، والآخرة ; فذكر عن الشبلي أن معنى فاخلع نعليك [ طه : 12 ] اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية ، وعن ابن عطاء : فاخلع نعليك عن الكون ; فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النعل النفس ، والوادي المقدس دين المرء ، أي : حان وقت خلوك من نفسك ، والقيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف .

              وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال الصديق : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ .

              [ ص: 251 ] [ ص: 252 ] وفي الخبر : من قال في القرآن برأيه فأصاب ; فقد أخطأ .

              وما أشبه ذلك من التحذيرات ، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء ، وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره ، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم ; فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين : منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه ; فربما كذب به أو أشكل عليه ، ومنهم من يكذب به على الإطلاق ، ويرى أنه تقول وبهتان ، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم ، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم ، يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية