الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1808 حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الشهر تسع وعشرون ) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه ، بل قد يكون ثلاثين ، والجواب أن المعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين ، أو اللام للعهد ، والمراد شهر بعينه ، أو هو محمول على الأكثر الأغلب ؛ لقول ابن مسعود : ما صمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين أخرجه أبو داود والترمذي ، ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد ، ويؤيد الأول قوله في حديث أم سلمة في الباب أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما ، وقال ابن العربي : قوله : " الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا " . . . إلخ ، معناه حصره من جهة أحد طرفيه ، أي : إنه يكون تسعا وعشرين وهو أقله ، ويكون ثلاثين وهو أكثره ، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطا ، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفا ، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلا تصوموا حتى تروه ) ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في حق كل أحد ، بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك ، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي آخرين . ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره ، وإلا متى كان صحوا لم يقبل إلا من جمع كثير يقع العلم بخبرهم . وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها ، ومن لم يذهب إلى ذلك قال لأن قوله : " حتى تروه " خطاب لأناس مخصوصين فلا يلزم غيرهم ، ولكنه مصروف عن ظاهره ، فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد فلا يتقيد بالبلد .

                                                                                                                                                                                                        وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب : أحدها لأهل كل بلد رؤيتهم ، وفي " صحيح " مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له ، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق ، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه ، وحكاه الماوردي وجها للشافعية . ثانيها مقابله إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها ، وهو المشهور عند المالكية ، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه ، وقال : أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس . قال القرطبي : قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم . وقال ابن الماجشون : لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم ؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع . وقال بعض الشافعية : إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا ، وإن تباعدت فوجهان : لا يجب عند الأكثر ، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب ، وحكاه البغوي عن الشافعي .

                                                                                                                                                                                                        وفي ضبط البعد أوجه : أحدها اختلاف المطالع ، قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي [ ص: 148 ] في " الروضة " و " شرح المهذب " . ثانيها مسافة القصر ، قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في " الصغير " والنووي في شرح مسلم " ثالثها : اختلاف الأقاليم . رابعها : حكاه السرخسي فقال : يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنها بلا عارض دون غيرهم . خامسها : قول ابن الماجشون المتقدم ، واستدل به على وجوب الصوم والفطر على من رأى الهلال وحده ، وإن لم يثبت بقوله ، وهو قول الأئمة الأربعة في الصوم ، واختلفوا في الفطر ؛ فقال الشافعي : يفطر ويخفيه . وقال الأكثر : يستمر صائما احتياطا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإن غم عليكم ) بضم المعجمة وتشديد الميم أي : حال بينكم وبينه غيم ، يقال : غممت الشيء إذا غطيته ، ووقع في حديث أبي هريرة من طريق المستملي " فإن غم " ومن طريق الكشميهني " أغمى " ومن رواية السرخسي " غبى " بفتح الغين المعجمة وتخفيف الموحدة ، وأغمى وغم وغمى بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم ، الكل بمعنى ، وأما غبى فمأخوذ من الغباوة ، وهي عدم الفطنة ، وهي استعارة لخفاء الهلال ، ونقل ابن العربي أنه روي " عمي " بالعين المهملة من العمى ، قال : وهو بمعناه ؛ لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات ، أو ذهاب البصيرة عن المعقولات .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية