الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2020 2127 - حدثنا عبدان ، أخبرنا جرير ، عن مغيرة عن الشعبي ، عن جابر رضي الله عنه قال : توفي عبد الله بن عمرو بن حرام ، وعليه دين ، فاستعنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه أن يضعوا من دينه ، فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلم يفعلوا ، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اذهب فصنف تمرك أصنافا ، العجوة على حدة ، وعذق زيد على حدة ، ثم أرسل إلي" . ففعلت ، ثم أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء فجلس على أعلاه ، أو في وسطه ثم قال : "كل للقوم" . فكلتهم حتى أوفيتهم الذي لهم ، وبقي تمري ، كأنه لم ينقص منه شيء . وقال فراس ، عن الشعبي : حدثني جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فما زال يكيل لهم حتى أداه . وقال هشام ، عن وهب ، عن جابر : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "جذ له ، فأوف له" . [2395 ، 2396 ، 2405 ، 2601 ، 2701 ، 2781 ، 3580 ، 4053 ، 6250 - فتح: 4 \ 344]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث ابن عمر : "من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه" .

                                                                                                                                                                                                                              وسلف قريبا في آخر ما ذكر في الأسواق .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جابر في وفائه دين والده ثم قال : " (كل) للقوم" . فكلتهم [ ص: 298 ] حتى أوفيتهم الذي لهم ، وبقي تمري ، كأنه لم ينقص منه شيء . (وقال) فراس ، عن الشعبي : حدثني جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فما زال يكيل لهم حتى أداه . (وقال) هشام ، عن وهب ، عن جابر : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "جذ له ، فأوف له" .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح : أما الآية فما فسره البخاري فسره الأخفش وأبو عبيدة وكذا الفراء ، فقال : الهاء في موضع نصب ، تقول في الكلام : قد كلتك طعاما كثيرا ، وكلتني مثله ، وقوله : ( اكتالوا على الناس ) [المطففين : 2] يريد من الناس وهما يتعاقبان : على ومن هنا ; لأنه حق عليه .

                                                                                                                                                                                                                              وهذه السورة مكية ، وقيل : مدنية . وقيل : نزلت في طريقه من مكة إلى المدينة . وقال السدي : استقبل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو داخل المدينة من مكة -شرفها الله- وقيل : أولها مدني وآخرها مكي . وقال ابن عباس : كان يمر علي على الحارث بن قيس وناس معه فيسخرون من علي ويضحكون ; ففيه نزلت : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون إلى آخر السورة . وقال السدي فيما حكاه الواحدي عنه في "أسبابه" : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وبها رجل يقال له : أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر . فأنزل الله الآية . وقال الطبري في "تفسيره" : كان عيسى بن عمر فيما ذكر عنه يجعلهما حرفين ويقف على كالوا وعلى وزنوا ، ثم يبتدئ فيقول : هم يخسرون ، والصواب عندنا الوقف على هم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 299 ] والتعليق الأول ذكره ابن أبي شيبة من حديث طارق بن عبد الله المحاربي بإسناد جيد ، والثاني -ويذكر عن عثمان- أسنده الدارقطني بإسناد ضعيف إلى منقذ مولى سراقة ، وليس بمشهور عن عثمان ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا ابتعت طعاما فاكتل ، وإذا بعت فكل" . ولابن أبي حاتم ، عن محمد بن حمير ، عن الأوزاعي ، حدثني ثابت بن ثوبان ، حدثني مكحول ، عن أبي قتادة قال : كان عثمان يشتري الطعام ويبيعه قبل أن يقبضه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وإذا ابتعت فاكتل إذا بعت فكل" ثم قال : قال أبي : هذا حديث منكر الإسناد . وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، عن سعيد بن المسيب ، عن عثمان ، وعن جابر : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان ، صاع البائع وصاع المشتري .

                                                                                                                                                                                                                              وفي إسناده ابن أبي ليلى .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى "إذا بعت فكل" أي : أوف . "وإذا ابتعت فاكتل" أي : استوف بكيل لا لك ولا عليك . نبه عليه ابن التين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 300 ] والتعليقان إثر حديث جابر سلفا في الصلاة موصولين وستكون لنا عودة إليه في الأطعمة .

                                                                                                                                                                                                                              و (فراس) هو ابن يحيى أبو يحيى الهمداني المعلم .

                                                                                                                                                                                                                              و (وهب) هو ابن كيسان ، أبو نعيم ، مولى عبد الله بن الزبير المدني التابعي ، مات سنة ست . وقيل : سنة سبع وعشرين ومائة .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عنه أنه قال : رأينا سعد بن مالك وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك يلبسون الخز ، ومغيرة الراوي عن الشعبي عن جابر هو ابن مقسم الضبي ، مات بعد الثلاثين ومائة .

                                                                                                                                                                                                                              أما فقه الباب : فالذي عليه الفقهاء أن الكيل والوزن فيما يكال ويوزن من المبيعات على البائع ومن عليه الكيل والوزن فعليه أجرة ذلك ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور ، وقال الثوري :

                                                                                                                                                                                                                              كل بيع فيه كيل أو وزن أو عد فهو على البائع حتى يوفيه إياه ، فإن قال : أبيعك النخلة فجذاذها على المشتري ، قال : وكل بيع ليس فيه كيل ولا وزن ولا عد فجذاذه وحمله ونقصه على المشتري ، والقرآن في ذكره البخاري يشهد لحديث عثمان في الباب ، وكذا قصة يوسف - عليه السلام - أن البائع عليه الكيل ، قال تعالى : ألا ترون أني أوفي الكيل [يوسف : 59] وقوله : فأوف لنا الكيل [يوسف : 88] ومع أنه [ ص: 301 ] شرع من قبلنا . وكذا قوله : " (كل للقوم" . فكلتهم حتى أوفيتهم) وجابر هو الغارم عن أبيه ، وهو لائح ; لأن من باع شيئا مسمى ومقدارا معروفا من طعام فعليه أن يعينه ويميزه مما سواه ، وكذلك من ابتاع بدراهم موزونة معلومة يعطيها للبائع فعليه الوزن والانتقاء ، كذا قاله ابن بطال معللا بأن عليه تعيين ما باعه من الدراهم بالسلعة .

                                                                                                                                                                                                                              وعندنا أن مؤنة الكيل على البائع ، ووزن الثمن على المشتري . وفي أجرة النقاد وجهان ، وينبغي أن تكون على البائع ، وأجرة النقل المحتاج إليها في تسليم المنقول على المشتري صرح به المتولي ، وقال بعض أصحابنا : على الإمام أن ينصب كيالا ووزانا في الأسواق ويرزقهما من سهم المصالح ، ثم إذا تولى ما ذكرناه أحد المتبايعين وجب عليه العدل وحرم عليه التطفيف . والأولى للباذل أن يزيد يسيرا للاحتياط ، وللبائع إن تولاه أن ينقص يسيرا .

                                                                                                                                                                                                                              قال الغزالي : وكل من خلط مع الطعام ترابا أو وزن مع اللحم عظاما لم تجر العادة بها فهو من المطففين ، وكذا إذا جر البزاز الثوب مع الذراع عند بيعه لغيره .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين : ومعنى ("إذا ابتعت فاكتل") أي : استوف كما سلف ، ليس أن الكيل على البائع والكيل على المشتري ، وهذا تضاد لو كان هكذا .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جابر : فيه : الشفاعة في وضع بعض الدين .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : تأخير الغريم بمقدار ما لا يضر بأهل الدين ، وكان غرماؤه يهود فلم يشفعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 302 ] ومعنى ("صنف تمرك أصنافا") : اعزل كل صنف على حدة .

                                                                                                                                                                                                                              والعجوة : أحد أنواع تمر المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              ("وعذق زيد") بفتح العين . نوع من التمر رديء كعذق ابن حبيق .

                                                                                                                                                                                                                              و (العذق) بفتح العين : النخلة ، وبكسرها : الكباسة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الإرسال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي الموضع الذي وعد أن يأتيه .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز الجلوس على التمر .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("كل للقوم") فيه : أن الكيل على البائع كما قدمناه : لأنه يوفي عن أبيه ، فصار كأنه البائع ، ولهذا أتى به البخاري هنا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء) : هو من أعلام نبوته ، وظهور بركته حين مشى في المجد .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن بعض الورثة يقوم مقام بعض .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ("جذ له") أي : اقطع ، وفي رواية أخرى : سألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبضوا تمر حائطي ويبرئوه .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة : قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه ، واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 303 ] أحدها : لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام ، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن ، وهو قول ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها : يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون . قاله عثمان بن عفان وابن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأراضي ، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : مثله ، إلا المأكول والمشروب ، قاله مالك وأبو ثور .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية ابن وهب عن مالك : في دون الخضروات . وقال عثمان البتي يجوز بيع كل شيء قبل قبضه ، وهو مصادم للنصوص .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية