الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يدبر الأمر قيل: أي أمر الدنيا وشؤونها، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجيء محمود العاقبة، وهو في حقه عز وجل مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة، والفعل مضمن معنى الإنزال، والجاران في قوله تعالى: من السماء إلى الأرض متعلقان به، (ومن) ابتدائية، (وإلى) انتهائية، أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلا له من السماء إلى الأرض، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه، فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم، ثم يعرج أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره إليه عز وجل، وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى، أي تعلق علمه سبحانه به تعلقا تنجيزيا بأن يعلمه جل وعلا موجودا بالفعل، أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عز وجل موجودا كذلك، في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات، وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور، وقد أعمل الثاني منهما فيه، فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعى فيها الحكمة، وبين وجودها كذلك، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى، بل يكفي فيه التعلق السابق، وقيل: ( في يوم ) متعلق (بيعرج)، وليس الفعلان متنازعين فيه، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل، كما دبر جل وعلا بواسطة الملك، وعرضه ذلك في حضرة قد أعدها سبحانه للاختبار، بما هو جل جلاله أعلم به إظهارا لكمال عظمته تبارك وتعالى، وعظيم سلطنته جلت سلطنته وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار، وألف سنة على حقيقتها، وهي مسافة ما بين الأرض، ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر، فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام، وثخن السماء كذلك، كما جاء في الأخبار الصحيحة، والملك يقطع ذلك في زمان يسير، فالكلام على التشبيه، فكأنه قيل: يريد تعالى الأمر متقنا مراعى فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض، فيكون كما أراد سبحانه، فيعرج ذلك الأمر مع الملك، ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون، وقيل: العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عز وجل كما هو مروي عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد ، وعكرمة، والضحاك والفعلان متنازعان في ( يوم )، والمراد أنه زمان تدبير الأمر، لو دبره البشر، وزمان العروج لو كان منهم أيضا [ ص: 121 ] وإلا فزمان التدبير والعروج يسير، وقيل: المعنى: يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ، فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض، ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظرا للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهابا وإيابا، والظاهر أن ( يدبر ) عليه مضمن معنى الإنزال، والجاران متعلقان به، لا بفعل محذوف، أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل، وزعم بعضهم أن ضمير ( إليه ) للسماء، وهي قد تذكر كما في قوله تعالى: السماء منفطر به [المزمل: 18]، وقيل: المعنى يدبر سبحانه أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الرب جل شأنه، وهو ألف سنة كما قال سبحانه: وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج: 47]، ثم يصير إليه تعالى، ويثبت عنده عز وجل ويكتب في صحف ملائكته جل وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر، ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوم آخر، وهلم جرا، إلى أن تقوم الساعة، ويشير إلى هذا ما روي عن مجاهد قال: إنه تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنيننا، وهو اليوم عنده تعالى، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، وعليه الأمر بمعنى الشأن، والجاران متعلقان به، أو بمحذوف حال منه، ولا تضمين في ( يدبر )، والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته، وكتبه في صحف الملائكة، ( وألف سنة )، على ظاهره، ( وفي يوم ) يتعلق بالفعلين، وأعمل الثاني كأنه قيل: يدبر الأمر ليوم مقداره كذا، ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول: قصدت ونظرت في الكتاب، أي قصدت إلى الكتاب، ونظرت فيه، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل: يجدد هذا الأمر مستمرا، وقيل: المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة، وعليه الأمر بمعنى الشأن، والجاران متعلقان به، أو بمحذوف حال له كما في سابقه، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه، لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جل وعلا فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ( وفي يوم ) متعلق بالعروج ولا تنازع، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج: 4]، بناء على أحد الوجهين فيه، لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة، أو لأن ثم خمسين موطنا، كل موطن ألف سنة، وقيل: المعنى: ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله، أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة، وهو ما بين السماء والأرض هبوطا وصعودا، فالأمر عليه مراد به الوحي، كما في قوله تعالى: يلقي الروح من أمره [غافر: 15]، والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام، والتدبير والعروج في اليوم، لكن على التوسع والتوزيع، فالفعلان متنازعان في الظرف، ولكن لا اختلاف في الصلة، ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بناء على الوجه الآخر فيه، وستعرفهما إن شاء الله تعالى، لأن العروج فيه إلى العرش، وفيها إلى السماء الدنيا، وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات، والمعنى: ينزل سبحانه ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض، ثم لا يعمل به، ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصا يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد، وعليه ( يدبر ) مضمن معنى الإنزال، (ومن وإلى) متعلقان به، ومعنى العروج الصعود كما في قوله [ ص: 122 ] تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب [فاطر: 10]، والغرض من الألف استطالة المدة، والمعنى استقلال عبادة الخلص، واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع، ( وثم ) للاستبعاد، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك: ( قليلا ما تشكرون ) [الأعراف: 10، المؤمنون: 78، السجدة: 9]، لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض، وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: يدبر أمور الشمس في طلوعها من المشرق، وغروبها في المغرب، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض، وزمان طلوعها إلى أن تغرب، وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة، وهي تقطع ذلك في يوم وليلة. هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال، ومخالفته للظاهر جدا، وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو، ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو، مثلها في قوله تعالى: أأمنتم من في السماء [الملك: 16]، وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره، كما سمعت عن الجماعة، ( وفي يوم ) متعلق بالعروج بلا تنازع، وأقول: إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها، ويريدها متقنة، وهو سبحانه مستو على عرشه، وذلك هو التدبير من جهة العلو، ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عز وجل، إظهارا لمزيد عظمته جلت عظمته، وعظيم سلطنته عظمت سلطنته، إلى حكم هو جل وعلا أعلم بها، وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى، مجامع للتنزيه، مباين للتشبيه، حسبما يقوله السلف في أمثاله، وقول بعضهم: العرش موضع التدبير، وما دونه موضع التفصيل، وما دون السماوات موضع التصريف، فيه رائحة ما مما ذكرنا، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة، وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة، فقد كثر الكلام في توجيهه، وقد تقدم لك بعض منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فسأله عن قوله تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة فكأن ابن عباس اتهمه، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني، فقال رضي الله تعالى عنه: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله تعالى أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم، فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب، فسأله عنهما إنسان، فلم يخبر ولم يدر، فقلت: ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس؟ قال: بلى، فأخبرته، فقال للسائل: هذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما، وهو أعلم مني.

                                                                                                                                                                                                                                      وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي، واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي، ومحيي الدين قدس سره يسمي الأول يوم الرب، والثاني يوم المعارج، وقد ذكر ذلك، وأياما أخر، كيوم الشأن، ويوم المثل، ويوم القمر، ويوم الشمس، ويوم زحل، وأيام سائر السيارة، ويوم الحمل، وأيام سائر البروج في الفتوحات. وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة، فكتب في جوابها ما كتب، واستطرد بيان إطلاقات اليوم، وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقا، منها إطلاقه على اليوم الربوبي، وإطلاقه على اليوم الإلهي، وأطال الكلام في ذلك المقام، ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئا معتدا به في موضع آخر، وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضا تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [المعارج: 4]، وقوله تعالى: مما تعدون صفة ( ألف )، أو صفة ( سنة) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة «يعرج» بالبناء للمفعول، والأصل يعرج به، فحذف الجار واستتر الضمير. وقرأ جناح بن حبيش «ثم يعرج الملائكة» إليه بزيادة الملائكة، قال أبو حيان : ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 123 ] وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بياء الغيبة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية