الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا أن يؤخروا ، فنزلت ، قيل : هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من [ ص: 340 ] بيع من أعسر بدين ، وقيل : أمر به في صدر الإسلام ، فإن ثبت هذا فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه : جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة : اليسر .

وقرأ الجمهور : ذو عسرة ، على أن : كان تامة ، وهو قول سيبويه ، وأبي علي ، وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون : كان ، ناقصة هنا ، وقدر الخبر : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر ، وقدر أيضا : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق ، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا ، لا اقتصارا ولا اختصارا لعلة ذكروها في النحو .

وقرأ أبي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وابن عباس ( ذا عسرة ) وقرأ الأعمش ( معسرا ) وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان اسمها ضميرا تقديره : هو ، أي : الغريم ، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام ؛ لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه .

وقرئ ( ومن كان ذا عسرة ) وهي قراءة أبان بن عثمان ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ( فإن كان ) بالفاء ، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسرا ، وذلك بعد ( وإن كان ) فقيل : يختص بأهل الربا ، ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم ؛ لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا ، وفيهم نزلت ، وقيل : ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار ، وأن العدم طارئ جاذب يحتاج إلى أن يثبت .

( فنظرة إلى ميسرة ) قرأ الجمهور ( فنظرة ) على وزن نبقة ، وقرأ أبو رجاء ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : بسكون الظاء وهي لغة تميمية ، يقولون في : كبد كبد . وقرأ عطاء ( فناظرة ) على وزن : فاعلة وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى : ( ليس لوقعتها كاذبة ) وكقوله : ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) وكقوله : ( يعلم خائنة الأعين ) وقال : قرأ عطاء ( فناظرة ) بمعنى : فصاحب الحق ناظره ، أي : منتظره ، أو صاحب نظرته ، على طريقة النسب ، كقولهم : مكان عاشب ، وباقل ، بمعنى : ذو عشب وذو بقل ، وعنه : فناظره ، على الأمر بمعنى : فسامحه بالنظرة ، وباشره بها ، انتهى ، ونقلها ابن عطية ، وعن مجاهد : جعلاه أمرا ، والهاء ضمير الغريم ، وقرأ عبد الله ( فناظروه ) أي : فأنتم ناظروه ، أي : فأنتم منتظروه ، فهذه ست قراءات ، ومن جعله اسم مصدر أو مصدرا فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه .

وقرأ نافع وحده ( ميسرة ) بضم السين ، والضم لغة أهل الحجاز ، وهو قليل ; كمقبرة ، ومشرفة ، ومسربة ، والكثير مفعلة بفتح العين ، وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة ، وهي لغة أهل نجد ، وقرأ عبد الله ( إلى ميسوره ) على وزن مفعول مضافا إلى ضمير الغريم ، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم : ماله معقول ولا مجلود ، أي : عقل وجلد ، ولم يثبت سيبويه مفعولا مصدرا ، وقرأ عطاء ومجاهد ( إلى ميسره ) بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم . وقرئ كذلك بفتح السين ، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة ، كقوله :


وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا



أي : عدة ، وهذا - أعني حذف التاء - لأجل الإضافة ، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين ، وأداهم إلى هذا التأويل : أن مفعلا ليس في الأسماء المفردة ، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد :


أبلغ النعمان عنى مألكا     أنه قد طال حبسي وانتظاري



وفي قول جميل :


بثين الزمي لا إن لا إن لزمته     على كثرة الواشين أي معون



فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة ، وكذلك قوله :


ليوم روع أو فعال مكرم



هذا تأويل أبي علي ، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء ، وقال سيبويه : ليس في [ ص: 341 ] الكلام مفعل ، يعني في الآحاد ، كذا قال أبو علي ، وحكي عن سيبويه : مهلك ، مثلث اللام ، وأجاز الكسائي أن يكون : مفعل واحدا ولا يخالف قول سيبويه ، إذ يقال : ليس في الكلام كذا ، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان ، كأنه لا يعتد بالقليل ، ولا يجعل له حكم ، وتقدم شيء من الإشارة إلى الخلاف : أهذا الإنظار يختص بدين الربا ؟ وهو قول ابن عباس وشريح ، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره ؟ وهو قول أبي هريرة ، والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والربيع بن خيثم ، وعامة الفقهاء .

وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة ، منها : " من أنظر معسرا ، ووضع عنه ، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " . ومنها : " يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : يا رب ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالا فكنت أوسع على المقتر ، وأنظر المعسر ، فيقول الله عز وجل : أنا أحق بذلك منك ، فتجاوزوا عن عبدي " .

( وأن تصدقوا خير لكم ) أي : تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار ، قاله الضحاك والسدي ، وابن زيد ، والجمهور ، وقيل : وأن تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة ، وهذا ضعيف ؛ لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين ، فالحمل على فائدة جديدة أولى ، ولأن : أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها ، والمراد بالخير : حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة . وقال قتادة : ندبوا إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على الغني والفقير .

وقرأ الجمهور ( وأن تصدقوا ) بإدغام التاء في الصاد ، وقرأ عاصم ( تصدقوا ) بحذف التاء ، وفي مصحف عبد الله ( تتصدقوا ) بتاءين وهو الأصل ، والإدغام تخفيف ، والحذف أكثر تخفيفا .

( إن كنتم تعلمون ) : يريد العمل ، فجعله من لوازم العلم ، وقيل : تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض ، وقيل : تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم .

قيل : آخر آية نزلت آية الربا ، قاله عمر ، وابن عباس ، ويحمل على أنها من آخر ما نزل ؛ لأنه الجمهور قالوا : آخر آية نزلت : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) فقيل : قبل موته بتسع ليال ، ثم لم ينزل شيء . وروي : بثلاث ساعات ، وقيل : عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ، وقيل : أحدا وعشرين يوما ، وقيل : سبعة أيام ، وروي أنه قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الدين " . وروي أنه قال ، عليه السلام : جاءني جبريل فقال : اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة ، وتقدم الكلام على : واتقوا يوما ، في قوله : ( واتقوا يوما لا تجزي ) .

وقرأ يعقوب ، وأبو عمرو ( ترجعون ) مبنيا للفاعل ، وخبر عباس عن أبي عمرو ، وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول وقرأ الحسن ( يرجعون ) على معنى يرجع جميع الناس ، وهو من باب الالتفات ، قال ابن جني : كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب ، فقال لهم : ( واتقوا ) ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم ، انتهى ، وقرأ أبي ( تردون ) بضم التاء ، حكاه عنه ابن عطية ، وقال الزمخشري : وقرأ عبد الله ( يردون ) وقرأ أبي ( تصيرون ) انتهى .

قال الجمهور : والمراد بهذا اليوم يوم القيامة ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أظهر لقوله : ( ثم توفى كل نفس ما كسبت ) والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه .

( ثم توفى كل نفس ) أي : تعطى وافيا جزاء ( ما كسبت ) من خير وشر ، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب ، وفيه رد على الجبرية .

( وهم لا يظلمون ) أي : لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب ، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب ، وأعاد الضمير أولا في ( كسبت ) على لفظ النفس ، وفي قوله : ( وهم لا يظلمون ) على المعنى لأجل فاصلة الآي ، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة ، ومن قرأ ( يرجعون ) بالياء فتجيء ( وهم ) عليه غائبا مجموعا لغائب مجموع .

التالي السابق


الخدمات العلمية