الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      السادس : في أقسامه :

                                                      ولم يذكر الإمام فخر الدين من أقسام التغيير غير تسعة ، وذكر لها مثالين أو ثلاثة وأعرض عن الباقي ظنا منه سهولة استخراجها .

                                                      وذكر ابن الخباز الموصلي : أنها كلمة مشكلة التحصيل ، وأنه ما كان يتأتى له استخراجها إلا بعد إطالة الفكر وإدامة الذكر وأنه مر عليه زمان وهو آيس من تحصيلها ، وأنه بحث فيها مع شيخه فخر الدين عمر النحوي الموصلي فلم يزده على صورة أو صورتين . قال : ثم من الله تعالى بفتح رتاج الإشكال فذكر أمثلة التسعة ، وذكرهارضي الدين بن جعفر البغدادي والقاضي ناصر الدين البيضاوي وزاد عليها ستة أقسام ، فبلغت خمسة عشر ، وقال ابن جعفر : لا يمكن الزيادة عليها ، ورأيت للشيخ [ ص: 319 ] جمال الدين بن مالك زيادة عليها تسعة أخرى ، فبلغت أربعة وعشرين وقال : والذي ينبغي أن يسأل عن أمثلة تغيير المشتق بالنسبة إلى المشتق منه ، ليدخل في الفعل فإنه أصل في الاشتقاق ، إذ لا فعل إلا وهو مشتق من مصدر مستعمل أو مقدر ، والاسم تبع له ، ولذلك كثر منه الجمود ، وبعد ذلك فالاعتبار الصحيح يقتضي كون المشتق بالنسبة إلى مباينة المشتق منه عشرين قسما أو أكثر من ذلك . أولها : زيادة الحرف فقط ، نحو كاذب من الكذب ، وضاحك من الضحك ، وكريم من الكرم ، وجزوع من الجزع ، زيدت فيها الحروف : الألف والياء والواو .

                                                      ومثله ابن السراج الأرموي : بطالب ، وقال زيدت فيه الألف ، ثم أورد عليه سؤالا وهو فإن قلت : فيما ذكرتم زيادة حركة مع نقصانها فإنكم نقصتم فتحة اللام التي هي عين الفعل وزدتم كسرتها . وأجاب عنه فقال : المعنى بزيادة الحركة تحريك الساكن ، وبنقصانها تسكين المتحرك ، وإبدال حركة بحركة ليس من الزيادة والنقصان المذكورين في شيء ، ولو جعلنا إبدال حركة بحركة زيادة حركة ونقصان أخرى لكان كاذبا من الكذب مثالا له .

                                                      قال الشيخ جمال الدين بن الشريشي : وهذا كلام صحيح إلا أن [ ص: 320 ] قوله : ولو جعلنا إبدال حركة . . . إلخ لا يحتاج إليه ، فإنه إبدال حركة بحركة لا زيادة ولا نقصان ، وإن كان قد ينزع به ، وإنما المراد بالزيادة والنقصان ما قاله أولا من تحريك الساكن وتسكين المتحرك ، وهو المراد بالزيادة والنقصان عند أرباب العربية على ما هو مذكور في التصريف .

                                                      ثانيها : زيادة الحركة فقط نحو علم من العلم ، وضرب من الضرب ، وظرف من الظرف ، زيدت حركة اللام والراء فإنها سواكن في المصدر . ومثله ابن جعفر بقوله : طلب من الطلب ، وقال : زيد في الفعل حركة البناء التي في آخره ، وفيه نزاع سيأتي بيانه .

                                                      ثالثها : زيادتهما معا كضارب وعالم وفاضل زيدت الألف وحركة عين الكلمة .

                                                      ومثله ابن جعفر ب " طالب " الفعل الماضي . قال : وهو مشتق من الطلب زيدت فيه الألف وفتحة البناء ، وهو فاسد ، لأن " طالب " إنما هو مشتق من المطالبة كذا قال ابن الشريشي . قلت : الظاهر أن ابن جعفر إنما أراد " طالب " اسم فاعل ، وبذلك مثله ابن مالك .

                                                      رابعها : نقصان الحرف كخرج من الخروج ، وصهل من الصهيل ، وذهب من الذهاب . نقص منه الواو والتاء والألف .

                                                      ومثله السراج الأرموي بشرس من الشراسة وقال : نقصت منه الألف والتاء ، ومثله البيضاوي وابن جعفر " بخف " فعل أمر من الخوف نقصت الواو . واعترض عليه بعضهم بأن الفاء صارت في هذا ساكنة بعد أن كانت متحركة ، فاجتمع في هذا المثال نقصان الحرف والحركة معا . [ ص: 321 ]

                                                      وقال ابن الشريشي : هذا المثال غير جيد ، لأن عين الكلمة وهي الواو لم تحذف لأجل الاشتقاق ، وإنما حذفت لأجل التقاء الساكنين . ألا ترى أنها تعود عند تحريك الآخر فيما إذا اتصل ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث في قولها خافا وخافوا وخافي ؟ وليس الكلام إلا فيما حذف لأجل الاشتقاق حتى يقع به المغايرة بين المشتق والمشتق منه ، وأما الحذف لالتقاء الساكنين ، فلعلة أخرى بعد حصول صورة المشتق . ألا ترى أن قولنا : " خافا " قد عاد فيه المحذوف مع بقاء الكلمة مشتقة معبرة عن أصلها ، وحق الألف أن تكون واوا متحركة لتقع المغايرة بين الفعل والمصدر بحركة هذه الواو ، فإنها في المصدر ساكنة ، وحقها أن تكون في الفعل متحركة ، ولكن طرأ عليها الاعتلال فانقلبت ألفا ساكنة ، ثم حذف بعد ذلك لالتقاء الساكنين لا للاشتقاق ، وكلامنا إنما هو فيما حذف للاشتقاق .

                                                      خامسها : نقصان الحركة كأبيض من البياض وأصبح من الصباح ، ونحو اطلب واحذر واضرب ، فإنه نقص منها حركات أوائلها فإنها متحركة في المصدر ساكنة في الفعل .

                                                      فإن قيل : هذه غير مطابقة ، فإن فيها ألفا زائدة في أوائلها ، فينبغي أن يذكر فيما زيد فيه حرف ونقصت منه حركة ، فالجواب أن الألف التي في أوائلها غير معتد بها في الاشتقاق ، فإن صورة المشتق حاصلة بدونها في قولك : يا زيد اضرب ، وما أشبهه ، فالألف ساقطة مع أن صورة الفعل المشتق حاصلة ، وإنما يجاء بها في بعض الأحوال ، وهو الابتداء بها لسكون أوائلها وتعذر الابتداء بالساكن ، ومثله البيضاوي ب " ضرب " المصدر من ضرب الماضي على مذهب الكوفيين في اشتقاقهم المصدر من الفعل الماضي . [ ص: 322 ]

                                                      ومثله ابن مالك ب " ثار " من الثار ، مصدر ثير المكان إذا كثرت حجارته ، ومثله ابن جعفر " بحرر " اسم فاعل من " حرر " الفعل الماضي فقد نقصت منه حركة البناء التي في الفعل وهو بناء على أصله من اعتبار حركة البناء في صيغة الفعل الماضي .

                                                      سادسها : نقصانهما : نحو " سر " من السير ، و " بع " من البيع ، نقصت الياء وحركة الراء من الأول والياء وحركة العين من الثاني ، ومثله ابن مالك ب " حيي " من الحياة ، ومثله الأرموي ب " عصى " من العصيان .

                                                      وقال : نقصت منه الألف والنون والفتحة التي كانت على الياء في المصدر . ومثله ابن الخباز ب " نزا " وغلا من النزوان والغليان ، ومثله ابن جعفر ب " عد " من العد ، فنقصت منه ألف وحركة الدال .

                                                      وفي هذه الأمثلة كلها نظر ، لأن سقوط الحركة فيها إنما هو بسكون آخر الأفعال في عصى ونزا وغلا وعد ، وسكون لام الكلمة وحركتها لا يعتبران في صيغة الكلمة وبنيتها ، وإنما الاعتبار بالحشو ، ألا ترى أن هذا السكون قد يزول مع بقاء صورة الكلمة على حالها ولا يعد زواله مغيرا للكلمة ؟ وذلك من قولنا : عصيا ونزوا وغليا وعدا ، وإنما الاعتبار في التغيير بما إذا تغير من صورة الكلمة وبنيتها .

                                                      ولقائل أن يقول : إنما تحرك آخر هذه الأفعال لاتصال الضمائر بها ، وكان الأصل سكونها ، فيكون القول الأول صحيحا .

                                                      سابعا : زيادة حرف ونقصان حرف : نحو تدحرج من الدحرجة ، نقص " هاء " التأنيث وزادت " التاء " ، [ ص: 323 ] وهذا القسم أهمله السراج الأرموي .

                                                      ومثله ابن جعفر ب " ديان " من الديانة ، وقال نقصت منه التاء ، وزيدت فيه الياء المدغمة الساكنة ، ثم قال : وفيه نظر : ومثله ابن مالك ب " رؤف " من الرأفة .

                                                      ثامنها : زيادة الحركة ونقصان حركة أخرى : نحو اضرب واعلم واشرب ، نقص منها حركات فاء الكلمات ، وزيد فيها حركات عينها ، وألف الوصل لا اعتبار بها كما تقدم ومثله البيضاوي ب " حذر " من الحذر زيدت فيه كسرة الذال ونقصت فتحته .

                                                      ومثله ابن جعفر ب " كرم " من الكرم و " شرف " من الشرف ، وقال : نقصت حركة الراء من المصدر وزيدت فيه ضمة الراء وفي " شرف " كسرتها .

                                                      والحق : أن هذه الأمثلة غير مطابقة ، وليس في هذا نقصان ولا زيادة ، وإنما هو إبدال .

                                                      تاسعها : زيادة الحرف ونقصان الحركة : نحو تحرر وتعرج زيد فيه حرف المضارعة ونقص منه فتحة الحاء والياء .

                                                      وذكر البيضاوي وابن جعفر في مثاله : عاد من العدد ، زيدت فيه الألف بعد العين ، ونقصت حركة الدال الأولى وفيه نظر ، لأن الدال المدغمة أصلها الحركة ، وإنما سكنت وأدغمت لمعنى آخر غير الاشتقاق ، وهو توالي المثلين والنظائر . [ ص: 324 ]

                                                      ومثله السراج الأرموي ب " أكرم " من الكرم زيد فيه الألف ، ونقصت حركة الكاف ، وفيه نظر ، لأن أكرم مشتق من الإكرام الذي هو مصدر لدلالته عليه ، ولو جعل الإكرام هو المشتق أولا لحصل به الغرض .

                                                      عاشر : زيادة ، الحركة ونقصان الحرف : نحو قدر وكتب ورحم من القدرة والكتابة والرحمة ، وحرم من الحرمان ، ونقص من النقصان . نقص من الأول التاء ومن الأخيرين الألف والنون ، وزيد فيها كلها حركات العينات . ومثله البيضاوي وابن جعفر ب " بنيت " من البنيان ، وقال : نقصت الألف وزيد فيه فتحة البناء في الفعل وسيأتي أن حركة البناء لا يعتد بها .

                                                      حادي عشرها : زيادة الحرف والحركة معا مع نقصان حركة أخرى : نحو يضرب ، زيد في حرف المضارعة ، وحركة عين الكلمة ونقص منه حركة فاء الكلمة ، ومثله البيضاوي وابن جعفر وقال زيدت فيه الهمزة المكسورة ، ونقصت حركة الضاد فجعل الهمزة وحركتها زائدتين وقد تقدم الكلام عليه . وبينا أن الزيادة إنما تعتبر في الحركة بأن تكون على ما كان ساكنا في الأصل وأن الألف المتحركة . زائدة واحدة .

                                                      ثاني عشرها : زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه : [ ص: 325 ] نحو قادر وعاصم وراحم وكاتب ، زيد فيها الألف ، وحركت العينات ونقص منها التاء التي هي أواخرها .

                                                      ومثله البيضاوي وابن جعفر ب " خاف " من الخوف ، وقال : نقصت الواو وحركة الدال ، ولا يخفى بما تقدم فساده .

                                                      ثالث عشرها : نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها : نحو انصر من النصرة ، وارحم من الرحمة ، واقدر من القدرة ، زيد فيها حركات العينات ، ونقص منها تاء التأنيث وحركات فاء الكلمة وحركتها .

                                                      ومثله البيضاوي ب " عد " من الوعد ، زيدت فيه كسرة العين ، ونقصت الواو وحركة الدال ولا يخفى ما فيه مما تقدم .

                                                      رابع عشرها : نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه : نحو " يخرج " ، و " يقصد " زيد فيه حرف المضارعة ، ونقص منه الواو التي في المصدر ، وفتحة فاء الكلمة ، ومثله البيضاوي وابن جعفر ب " كال " من الكلال ، وقال : زيد فيه الألف بعد الكاف ، ونقص منه الألف التي كانت بين اللامين ، وفتحة اللام الأولى المدغمة والكلام فيه كما في عاد ، وقد تقدم .

                                                      خامس عاشرها : زيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا : كالاحمرار من الحمرة نقصت منه التاء وحركة الحاء وزيدت فيه الراء الأولى والألف التي بعدها وحركة الميم ، وكذلك ما أشبهه من الاصفرار ونحوه . [ ص: 326 ]

                                                      ومثله ابن الخباز والسراج الأرموي ب " استنوق " الجمل أي تحول الجمل ناقة ، وهو مشتق من الناقة ، نقصت منه التاء وحركة النون وزيدت فيه السين والتاء وحركة والواو التي كانت ألفا ساكنة في الناقة ، وفيه نظر ، لأن " استنوق " إنما هو مشتق من مصدره الذي هو الاستنواق ، لدلالته عليه ، فالأولى أن يجعل الاستنواق الذي هو المصدر هو المشتق من الناقة والغرض يحصل به ، لأن النقصان والزيادة المطلوبين في المثال موجودان فيه ، لأن المصدر زيدت فيه السين والتاء والألف التي بعد الواو وحركة الواو ونقص منه التاء وفتحة النون ، وكان جعله هو المشتق أولا أولى .

                                                      ومثله البيضاوي وابن جعفر ب " ارم " من الرمي وقال : زيدت فيه الألف وكسرة الميم ، ونقصت حركة الواو والياء ، وفيه نظر . أما ألف الوصل فقد تقدم الكلام عليها ، وأما الياء فلم تحذف للاشتقاق بل لمعنى آخر ، وهو حمل المبني على المعرب لشبهه به في الصحيح ، فجعل المعتل كذلك . ألا ترى أن هذه الياء تحذف في المعرب في قولنا : لم يرم ليجزم ؟ فكذلك حذفت في قولنا : ارم للبناء حملا للمبني على المعرب في الصورة . ألا ترى أن الياء تعود عند اتصال الضمير بالفعل في قولك : ارميا . وعند اتصال النونين الثقيلة والخفيفة في قولك : ارمين وارمين ، وعند اتصال ضمير جماعة الإناث في قولك : ارمين يا نسوة ؟ فعلم أن الياء ما حذفت للاشتقاق ، وكلامنا فيما يحذف له أو يزداد له ، فتحصل به المغايرة بين صورة المشتق والمشتق منه لا فيما يحذف أو يزاد لمعنى آخر . [ ص: 327 ] وزاد الشيخ جمال الدين الشريشي قسمين آخرين :

                                                      أحدهما : ما فيه تغيير ظاهر ، نحو حذر من الحذر " وفرح من الفرح ، وجزع من الجزع ونحوه ، وقعت المغايرة بين الفعل والمصدر بحركة العين ، فإنها في المصدر مفتوحة وفي الفعل مكسورة .

                                                      ثانيهما : ما فيه تغيير مقدر نحو طلب من الطلب ، وهرب من الهرب ، وغلب من الغلب ونحوه ، وإنما قدرنا التغيير ، لأنه يجب أن يكون صورة المشتق وبنيته مخالفة لصورة المشتق منه ، ورأينا هذه الأفعال لا تخالف صورة المصادر المشتق منها ، وليس لها مصادر غيرها فوجب أن يكون فيها تغيير مقدر كما قالت النحاة في الفلك : إنه يقع على الواحد والجمع بلفظ واحد ، ولا بد من التغاير بينهما فتقدر الضمة إذا كان جمعا غير الضمة التي فيه إذا كان مفردا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية