الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ردة حضرموت وكندة

لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعماله على بلاد حضرموت : زياد بن أبي لبيد الأنصاري على حضرموت ، وعكاشة بن أبي أمية على السكاسك والسكون والمهاجر بن أبي أمية على كندة ، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يخرج إليها حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعثه أبو بكر إلى قتال من باليمن ، ثم المسير بعد إلى عمله ، وكان قد تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك ، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاتب عليه ، فبينما أم سلمة تغسل رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : كيف ينفعني عيش وأنت عاتب على أخي ؟ فرأت [ ص: 230 ] منه رقة ، فأومأت إلى خادمها فدعته ، فلم يزل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر عذره حتى رضي عنه واستعمله على كندة . فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسر إلى عمله ، ثم سار بعده .

وكان سبب ردة كندة وإجابتهم الأسود الكذاب حتى لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الملوك الأربعة منهم - أنهم لما أسلموا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوضع بعض صدقة حضرموت في كندة ، وبعض صدقة كندة في حضرموت ، وبعض صدقة حضرموت في السكون ، وبعض صدقة السكون في حضرموت ، فقال بعض بني وليعة : من كندة لحضرموت ليس لنا ظهر ، فإن رأيتم أن تبعثوا إلينا بذلك على ظهر . قالوا : فإنا ننظر ، فإن لم يكن لكم ظهر فعلنا . فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت بنو وليعة : أبلغونا كما وعدتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ! فقالوا : إن لكم ظهرا فاحتملوا ، فقالوا لزياد : أنت معهم علينا . فأبى الحضرميون ، ولح الكنديون ورجعوا إلى دارهم ، وترددوا في أمرهم ، وأمسك عنهم زياد انتظارا للمهاجر .

وكان المهاجر لما تأخر بالمدينة قد استخلف زيادا على عمله ، وسار المهاجر من صنعاء إلى عمله ، وعكرمة بن أبي جهل أيضا ، فنزل أحدهما على الأسود ، والآخر على وائل ، وكان زياد بن لبيد قد ولي صدقات بني عمرو بن معاوية من كندة بنفسه ، فقدم عليهم ، فكان أول من انتهى منهم شيطان بن حجر ، فأخذ منهم بكرة ووسمها ، فإذا الناقة للعداء بن حجر أخي شيطان ، وكان أخوه قد أوهم حين أخرجها ، وكان اسمها شذرة ، وظنها غيرها . فقال العداء : هذه ناقتي . فقال شيطان : صدق ، فأطلقها وخذ غيرها . فاتهمه زياد بالكفر ومباعدة الإسلام . فمنعهما عنها وقال : صارت في حق الله . فلجأ في أخذها ، فقال لها : لا تكونن شذرة عليكم كالبسوس . فنادى العداء : يا آل عمرو ، أضام وأضطهد ! إن الذليل من أكل في داره ! ونادى حارثة بن سراقة بن معدي كرب ، فأقبل إلى زياد وهو واقف ، فقال : أطلق بكرة الرجل وخذ غيرها . فقال زياد : ما لي إلى ذلك سبيل . فقال حارثة : ذاك إذا كنت يهوديا ، وأطلق عقالها وبعثها وقام دونها ، فأمر زياد شبابا من حضرموت والسكون فمنعوه وكتفوه ، وكتفوا أصحابه وأخذوا البكرة ، وتصايحت كندة ، وغضبت بنو معاوية لحارثة وأظهروا أمرهم ، وغضبت حضرموت والسكون لزياد ، وتوافى عسكران عظيمان من هؤلاء ، ولم يحدث بنو معاوية شيئا لمكان أسرائهم ، ولم يجد أصحاب زياد سبيلا يتعلقون به عليهم ، وأمرهم زياد بوضع السلاح [ ص: 231 ] فلم يفعلوا ، وطلبوا أسراءهم فلم يطلقهم ، ونهد إليهم ليلا فقتل منهم وتفرقوا ، فلما تفرقوا أطلق حارثة ومن معه . فلما رجع الأسرى إلى أصحابهم حرضوهم على زياد ومن معه ، واجتمع منهم عسكر كثير ، ونادوا بمنع الصدقة ، فأرسل الحصين بن نمير ، وسكن بعضهم عن بعض ، فأقاموا بعد ذلك يسيرا .

ثم إن بني عمرو بن معاوية من كندة نزلوا المحاجر ، وهي أحماء حموها ، فنزل جمد محجرا ، ومخوص محجرا ، ومشرح محجرا ، وأبضعة محجرا ، وأختهم العمردة محجرا ، وهم الملوك الأربعة رؤساء عمرو الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكروا قبل . ونزلت بنو الحارث بن معاوية محاجرها ، فنزل الأشعث بن قيس محجرا ، والسمط بن الأسود محجرا ، وأطبقت بنو معاوية كلها على منع الصدقة ، إلا شرحبيل بن السمط وابنه ، فإنهما قالا لبني معاوية : إنه لقبيح بالأحرار التنقل ، إن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن ينتقلوا إلى أوضح منها مخافة العار ، فكيف الانتقال من الأمر الحسن الجميل والحق إلى الباطل والقبيح ! اللهم إنا نمالئ قومنا على ذلك . وانتقل ونزل مع زياد ومعهما امرؤ القيس بن عابس ، وقالا له : بيت القوم ؛ فإن أقواما من السكاسك والسكون قد انضموا إليهم ، وكذلك شذاذ من حضرموت ، فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم . فأجابهم إلى تبييت القوم ، فاجتمعوا وطوقوهم في محاجرهم ، فوجدوهم جلوسا حول نيرانهم ، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية ، وفيهم العدد والشوكة - من خمسة أوجه ، فأصابوا مشرحا ومخوصا وجمدا وأبضعة وأختهم العمردة ، وأدركتهم لعنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتلوا فأكثروا ، وهرب من أطاق الهرب ، وعاد زياد بن لبيد بالأموال والسبي ، واجتازوا بالأشعث ، فثار في قومه ، فاستنقذهم وجمع الجموع .

وكتب زياد إلى المهاجر يستحثه ، فلقيه الكتاب بالطريق فاستخلف على الجند عكرمة بن أبي جهل ، وتعجل في سرعان الناس ، وقدم على زياد وسار إلى كندة ، فالتقوا بمحجر الزرقان فاقتتلوا ، فانهزمت كندة وقتلت ، وخرجوا هرابا فالتجئوا إلى النجير ، وقد رموه وأصلحوه . وسار المهاجر فنزل عليهم ، واجتمعت كندة في النجير فتحصنوا به ، فحصرهم المسلمون ، وقدم إليهم عكرمة ، فاشتد الحصر على كندة ، وتفرقت السرايا في طلبهم فقتلوا منهم ، وخرج من بالنجير من كندة وغيرهم ، فقاتلوا المسلمين فكثر فيهم القتل ، فرجعوا إلى حصنهم ، وخشعت نفوسهم وخافوا القتل ، [ ص: 232 ] وخاف الرؤساء على نفوسهم . فخرج الأشعث ومعه تسعة نفر ، فطلبوا من زياد أن يؤمنهم وأهليهم على أن يفتحوا له الباب . فأجابهم إلى ذلك وقال : اكتبوا ما شئتم ثم هلموا الكتاب حتى أختمه . ففعلوا ، ونسي الأشعث أن يكتب نفسه لأن جحدما وثب عليه بسكين ، فقال : تكتبني أو أقتلك ؟ فكتبه ونسي نفسه ، ففتحوا الباب ، فدخل المسلمون فلم يدعوا مقاتلا إلا قتلوه ، وضربوا أعناقهم صبرا ، وأخذوا الأموال والسبي . فلما فرغوا منهم دعا الأشعث أولئك النفر والكتاب معهم فعرضهم ، فأجار من في الكتاب ، فإذا الأشعث ليس منهم ، فقال المهاجر : الحمد لله الذي خطأ فاك يا أشعث يا عدو الله ! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله ! وشده كتافا ، فقيل له : أخره وسيره إلى أبي بكر ؛ فهو أعلم بالحكم فيه . فسيره إلى أبي بكر مع السبي .

وقيل : إن الحصار لما اشتد على من بالنجير نزل الأشعث إلى المهاجر وزياد والمسلمين ، فسألهم الأمان على دمه وماله حتى يقدموا به على أبي بكر ، فيرى فيه رأيه ، على أن يفتح لهم النجير ويسلم إليهم من فيه ، وغدر بأصحابه ، فقبلوا ذلك منه ، ففتح لهم الحصن ، فاستنزلوا من فيه من الملوك فقتلوهم وأوثقوا الأشعث وأرسلوه مع السبي إلى أبي بكر ، فكان المسلمون يلعنونه ويلعنه سبايا قومه ، وسماه نساء قومه عرف النار ، وهو اسم الغادر عندهم . فلما قدم المدينة قال له أبو بكر : ما تراني أصنع بك ؟ قال : لا أعلم . قال : فإني أقتلك . قال : فأنا الذي راوضت القوم في عشرة فما يحل دمي . قال : إنما وجب الصلح بعد ختم الصحيفة على من فيها ، وإنما كنت قبل ذلك مراوضا . فلما خشي القتل قال : أوتحتسب في خيرا ، فتطلق إساري وتقيلني عثرتي ، وتفعل بي مثل ما فعلت بأمثالي ، وترد علي زوجتي ؟ - وقد كان خطب أم فروة أخت أبي بكر لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرها إلى أن يقدم الثانية ، فمات النبي - صلى الله عليه وسلم - وارتد - فإن فعلت ذلك تجدني خير أهل بلادي لدين الله . فحقن دمه ورد عليه أهله ، وأقام بالمدينة حتى فتح العراق ، وقسم الغنائم بين الناس .

وقيل : إن عكرمة قدم بعد الفتح ، فقال زياد والمهاجر لمن معهما : إن إخوانكم قدموا مددا لكم ، فأشركوهم في الغنيمة ، ففعلوا وأشركوهم .

ولما ولي عمر بن الخطاب قال : إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضا ، وقد وسع الله - عز وجل - وفتح الأعاجم . واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام ، [ ص: 233 ] إلا امرأة ولدت لسيدها ، وجعل فداء لكل إنسان ستة أبعرة أو سبعة ، إلا حنيفة وكندة ، فإنه خفف عليهم لقتل رجالهم ، فتتبع النساء بكل مكان فقدوهن .

وفيها انصرف معاذ بن جبل من اليمن .

وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب ، وكان يقضي بين الناس خلافته كلها .

وحج بالناس في هذه السنة عتاب بن أسيد ، وقيل : عبد الرحمن بن عوف .

( النجير - بضم النون ، وفتح الجيم ، وسكون الياء تحتها نقطتان ، وآخره راء : حصن باليمن منيع ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية