الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ومنها ظنه أن القول بتحريم السفر لم يقل به أحد من أهل العلم ; بل إنما نقله المجيب إن صح نقله عمن لا يعتمد عليه ولا يعتد بخلافه . وهو نص مالك الصريح في خصوص قبر الرسول ومذهب جمهور أصحابه وجمهور السلف والعلماء .

                ومنها زعمه أن الذين حكى المجيب قولهم - وهم الغزالي وابن عبدوس وأبو محمد المقدسي - لا يعتد بخلاف من سواهم ولا يرجع في ذلك لمن عداهم ; ومثل هذا الكلام لا يقال في أحد من الأئمة الكبار ; بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ; إلا صاحب الشرع فكيف يسوغ أن يقال في مثل هؤلاء ومنها أنه لما أراد أن يثبت أن النبي يسمع من القرب ويبلغ الصلاة والسلام من البعد : لم يذكر ما في ذلك من الأحاديث الحسان التي في السنن ; بل إنما اعتمد على حديث موضوع { من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته } وهذا إنما يرويه محمد بن مروان السدي عن الأعمش . وهو كذاب بالاتفاق وهذا الحديث موضوع على الأعمش بإجماعهم .

                ثم قد غير لفظه . ففي النسخة التي رأيتها مصححا : { ومن [ ص: 242 ] صلى علي نائيا سمعته } وإنما لفظه { بلغته } وهكذا ذكره القاضي عياض عن مسند بن أبي شيبة وهو نقل منه . ومن يحتج بمثل هذا الحديث الموضوع ويعرض عن أحاديث أهل السنن الحسان فهو من أبعد الناس عن أهل العلم والعرفان . وإذا كان قد حرف لفظه فهو ظلمات بعضها فوق بعض من جنس فعل الملاحدة في قوله : { أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل } الحديث فهو كذب موضوع . ومع هذا فحرفوا لفظه فقالوا : أول بالضم ولفظه { أول ما خلق } بالنصب على الظرف كما روي " لما خلق " .

                ومنها أنه احتج بإجماع السلف والخلف على زيارة قبره ; وظن أن الجواب يتضمن النهي عما أجمع عليه وقد صرح في الجواب بأن السفر إلى مسجده طاعة مجمع عليها وكذلك ما تضمنه مما يسمى بزيارة لقبره من الأمور المستحبة : مثل الصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له بالوسيلة وغيرها والشهادة له والثناء عليه بما فضله الله به ومحبته وموالاته وتعزيره وتوقيره وغير ذلك مما قد يدخل في مسمى الزيارة : فهذا كله مستحب . والمجيب يصرح باستحباب ذلك وقد تنازع العلماء هل يسمى هذا زيارة ؟ وذكر تنازع العلماء فيما تنازعوا فيه من ذلك وإجماعهم على ما أجمعوا عليه . فذكر جواز ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارة قبره وذكر بعض ما [ ص: 243 ] تنوزع فيه من ذلك . وهذا ظن أن السفر إلى زيارة نبينا كالسفر إلى غيره من الأنبياء والصالحين وهو غلط من وجوه .

                أحدها : أن مسجده عند قبره والسفر إليه مشروع بالنص والإجماع ; بخلاف غيره .

                والثاني : أن زيارته كما يزار غيره ممتنعة وإنما يصل الإنسان إلى مسجده وفيه يفعل ما شرع له .

                الثالث : أنه لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا . وإن لم يسمى هذا زيارة بل يكره لهم ذلك عند غير السفر كما ذكر ذلك مالك وبين أن ذلك من البدع التي لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه : علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين .

                الرابع : أنه قد نهى أن يتخذ قبره عيدا وأمر الأمة أن تصلي عليه وتسلم حيث ما كانت وأخبر أن ذلك يبلغه . فلم يكن تخصيص البقعة بالدعاء له مشروعا ; بل يدعى له في جميع الأماكن وعند كل [ ص: 244 ] أذان وفي كل صلاة وعند دخول كل مسجد والخروج منه بخلاف غيره . وهذا لعلو قدره وارتفاع درجته . فقد خصه الله من الفضيلة . بما لم يشركه فيه غيره ; لئلا يجعل قبره مثل سائر القبور ; بل يفرق بينهما من وجوه متعددة ويبين فضله على غيره وما من الله به على أمته .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية