الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال ( سبحانه ) ثم قال عقيبه : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) كان كالحجة على تنزيهه عن الولد ، وبيان ذلك أن الذي يجعل ولدا لله ، إما أن يكون قديما أزليا أو يكون محدثا فإن كان أزليا فهو محال ؛ لأنه لو كان واجبا لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد ، هذا خلف ، وإن كان ممكنا لذاته كان مفتقرا في وجوده إلى الواجب لذاته غنيا لذاته فيكون الممكن محتاجا لذاته فيكون عبدا له ؛ لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك ، وأما إن كان الذي يجعل ولدا يكون محدثا فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) فيكون عبدا له لا ولدا له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج الأصحاب بقوله : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) على قدم كلام الله تعالى قالوا : لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون فلو كان قوله كن محدثا لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال ، فثبت أن قول الله قديم لا محدث ، واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا ، وهذه الكلمة دالة على الاستقبال ؛ فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن حرف الفاء للتعقيب ، والفاء في قوله : ( فإنما يقول له ) يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء ، والمتأخر عن غيره محدث .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الفاء في قوله : ( فيكون ) يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدما على حدوث الحادث تقدما بلا فصل ، والمتقدم على المحدث تقدما بلا فصل يكون محدثا ، فقول الله محدث . واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف ، أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله : ( كن ) قديما وذلك باطل بالاتفاق ، وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف [ ص: 187 ] والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعى قدم شيء آخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئا قال له كن وهذا ضعيف ؛ لأنه ، إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه . فإن كان الأول كان ذلك خطابا مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله ( كن ) فيه ، ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : ( كن ) هو التخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل ، ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها ، والقادرية غير المكونية ، والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول : المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده ، فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلا منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال ، فثبت أن التكوين غير المكون فقوله : ( كن ) إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين ، وقال آخرون قوله : ( كن ) عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات . فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة .

                                                                                                                                                                                                                                            [قوله تعالى وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ...

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية