الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون

لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة - رضي الله عنها - فيها نزلت آية التيمم؛ وهي آية الوضوء؛ لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم؛ مستعملا؛ فكأن [ ص: 113 ] الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته؛ وإنما أعطتهم الفائدة؛ والرخصة في التيمم؛ واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة - رضي الله عنها -: "فأقام رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - بالناس؛ وليسوا على ماء؛ وليس معهم ماء"؛ وآية النساء إما نزلت معها؛ أو بعدها بيسير؛ وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - في غزوة المريسيع؛ وهي غزوة بني المصطلق؛ وفيها كان هبوب الريح؛ فيما روي؛ وفيها كان قول عبد الله بن أبي بن سلول: "لئن رجعنا إلى المدينة"؛ القصة بطولها؛ وفيها وقع حديث الإفك.

ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام؛ جاءت العبارة: "إذا قمتم".

واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله: "إذا قمتم"؛ فقالت طائفة: "هذا لفظ عام في كل قيام؛ سواء كان المرء على طهور؛ أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ"؛ وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك؛ ويقرأ الآية؛ وروي نحوه عن عكرمة ؛ وقال ابن سيرين : "كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة؛ وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - توضأ وضوءا فيه تجوز؛ ثم قال: "هذا وضوء من لم يحدث"؛ وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أمر بالوضوء عند كل صلاة؛ فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك؛ ورفع عنه الوضوء؛ إلا من حدث.

[ ص: 114 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكان كثير من الصحابة - منهم ابن عمر ؛ وغيره؛ يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة؛ وكذلك كان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يفعل؛ ثمجمع بين صلاتين بوضوء واحد؛ في حديث سويد بن النعمان؛ وفي غير موطن؛ إلى أن جمع - صلى اللـه عليه وسلم - يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد؛ إرادة البيان لأمته؛ وروى ابن عمر أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات"؛ وقال: "إنما رغبت في هذا".

وقالت فرقة: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء؛ ولا يكلم أحدا؛ ولا يرد سلاما؛ إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط؛ دون سائر الأعمال؛ قال ذلك علقمة بن الفغواء؛ وهو من الصحابة؛ وكان دليل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - إلى "تبوك"؛ وقال زيد بن أسلم ؛ والسدي : معنى الآية: "إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع"؛ يعني النوم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر؛ ولا سيما النوم؛ الذي هو مختلف فيه: هل هو في نفسه حدث؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم؛ وتأخير؛ تقديره: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم؛ أو جاء أحد منكم من الغائط؛ أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا"؛ فتمت أحكام المحدث حدثا [ ص: 115 ] أصغر؛ ثم قال: وإن كنتم جنبا فاطهروا ؛ فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعا: ( وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ؛ وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة ؛ من أصحاب مالك - رحمه الله -؛ وغيره.

وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية: "إذا قمتم إلى الصلاة محدثين"؛ وليس في الآية - على هذا - تقديم؛ ولا تأخير؛ بل يترتب في الآية حكم واجد الماء؛ إلى قوله: "فاطهروا"؛ ودخلت الملامسة الصغرى في قوله: "محدثين"؛ ثم ذكر بعد ذلك - بقوله: وإن كنتم مرضى ؛ إلى آخر الآية - حكم عادم الماء من النوعين جميعا؛ وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد؛ ليذكر الجنب العادم للماء؛ كما ذكر الواجد؛ وهذا هو تأويل الشافعي ؛ وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة؛ كسعد بن أبي وقاص؛ وابن عباس ؛ وأبي موسى ؛ وغيرهم.

وقوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم : الغسل في اللغة: إيجاد الماء في المغسول؛ مع إمرار شيء عليه؛ كاليد؛ أو ما قام مقامها؛ وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء؛ أو التقليل منه؛ وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه؛ وإمرار اليد عليه؛ والوجه: ما واجه الناظر وقابله؛ وحده في الطول منابت الشعر فوق الجبهة؛ إلى آخر الذقن؛ وعبر بعض الناس: "إلى ما قبل الذقن"؛ وقيل: بل حده فيها آخر الشعر.

واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين: روي تخليلها عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - من حديث أنس ؛ ذكره الطبري ؛ واختلف في حده عرضا؛ فهو في المرأة؛ والأمرد؛ من الأذن [ ص: 116 ] إلى الأذن؛ وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال؛ فقيل: "من الشعر إلى الشعر"؛ يعني شعر العارضين؛ وقيل: "من الأذن إلى الأذن"؛ ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه؛ وقيل: "يغسل ذلك البياض استحبابا"؛ واختلف في الأذنين؛ فقيل: "هما من الرأس"؛ وقال الزهري : "من الوجه"؛ وقيل: "هما عضو قائم بنفسه؛ ليسا من الوجه؛ ولا من الرأس"؛ وقيل: "ما أقبل منهما من الوجه؛ وما أدبر فهو من الرأس"؛ واختلف في المضمضة؛ والاستنشاق؛ فجمهور الأمة يرونها سنة؛ ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه؛ وقال مجاهد : "الاستنشاق شطر الوضوء"؛ وقال حماد بن أبي سليمان ؛ وقتادة ؛ وعطاء ؛ والزهري ؛ وابن أبي ليلى ؛ وابن راهويه : "من ترك المضمضة؛ والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة"؛ وقال أحمد : "يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة"؛ والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله؛ إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.

وقوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق : اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع؛ ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة؛ وحد الله موضع الغسل منه بقوله: "إلى المرافق"؛ يقال في واحدها: "مرفق"؛ و"مرفق"؛ وكسر الميم وفتح الفاء أشهر؛ واختلف العلماء: هل تدخل المرافق في الغسل؛ أم لا؟ فقالت طائفة: "لا تدخل؛ لأن "إلى" غاية تحول بين ما قبلها؛ وما بعدها"؛ وقالت طائفة: "تدخل المرافق في الغسل؛ لأن ما بعد "إلى"؛ إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل"؛ ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول: "اشتريت الفدان إلى حاشيته"؛ أو بأن تقول: "اشتريت الفدان إلى الدار"؛ وبقوله: أتموا الصيام إلى الليل .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وتحرير العبارة في هذا المعنى؛ أن يقال: "إذا كان ما بعد "إلى" ليس مما قبلها؛ فالحد أول المذكور بعدها؛ وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها؛ فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها"؛ ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل؛ والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس - رضي الله عنه -؛ روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد؛ وروي عنه أنهما داخلان.

[ ص: 117 ] وقوله تعالى: وامسحوا برءوسكم ؛ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء؛ وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين؛ ثم يرسل؛ ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين.

واختلف في مسح الرأس في مواضع؛ منها هيئة المسح؛ فقالت طائفة - منها مالك ؛ والشافعي ؛ وجماعة من الصحابة؛ والتابعين -: "يبدأ بمقدم رأسه؛ ثم يذهب بهما إلى قفاه؛ ثم يردهما إلى مقدمه"؛ وقالت فرقة: "يبدأ من مؤخر الرأس؛ حتى يجيء إلى المقدم؛ ثم يرد إلى المؤخر"؛ وقالت فرقة: "يبدأ من وسط الرأس؛ فيجيء بيديه نحو الوجه؛ ثم يرد؛ فيصيب باطن الشعر؛ فإذا انتهى إلى وسط الرأس؛ أمر يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس؛ ثم يرد؛ فيصيب باطنه؛ ويقف عند وسط الرأس"؛ وقالت فرقة: "يمسح رأسه من هنا وهنا؛ على غير نظام؛ ولا مبدإ محدود؛ حتى يعمه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "وهذا كله قول بالعموم"؛ واختلف في رد اليدين على شعر الرأس؛ هل هو فرض؛ أم سنة؛ بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن؛ فالجمهور على أنه سنة؛ وقيل: "هو فرض".

ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح؛ فقالت جماعة: "الواجب من مسح الرأس عمومه"؛ ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه؛ وقال محمد بن مسلمة : "إن مسح ثلثي الرأس؛ وترك الثلث؛ أجزأ؛ لأنه كثير في أمور من الشرع"؛ وقال أشهب: "إن مسح الناصية أجزأ".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس؛ وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث؛ في بعضها ذكر الناصية؛ وفي بعضها ذكر مقدم الرأس؛ إلا ما روي عن إبراهيم؛ والشعبي ؛ قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك؛ وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه؛ وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط؛ وقال أصحاب الرأي: إن مسح بثلاث أصابع أجزأه؛ وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزئ؛ وقال قوم: يجزئ من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة؛ وقال الحسن بن أبي الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها؛ وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه.

[ ص: 118 ] ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس: ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا؛ وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة؛ واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ؛ وقيل: لا يجزئ.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويترجح أنه لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح؛ وكأنه لعب؛ إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض؛ فينبغي ألا يختلف في الإجزاء.

ومن مواضع الخلاف عدد المسحات؛ فالجمهور على مرة واحدة؛ ويجزئ ذلك عند الشافعي ؛ وثلاث أحب إليه؛ وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين؛ وروي عن أنس أنه قال: يمسح الرأس ثلاثا؛ وقاله سعيد بن جبير ؛ وعطاء ؛ وميسرة.

والباء في قوله: "برءوسكم"؛ مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس؛ والمعنى عنده: "وامسحوا رؤوسكم"؛ وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس؛ كأن المعنى: "أوجدوا مسحا برؤوسكم"؛ فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك؛ ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثارا؛ وأقيسة؛ بحسب اجتهاد العلماء - رحمهم الله.

وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وحمزة : "وأرجلكم"؛ خفضا؛ وقرأ نافع ؛ وابن عامر ؛ والكسائي : "وأرجلكم"؛ نصبا؛ وروى أبو بكر عن عاصم الخفض؛ وروى عنه حفص النصب؛ وقرأ الحسن؛ والأعمش : "وأرجلكم"؛ بالرفع؛ المعنى: "فاغسلوها"؛ ورويت عن نافع ؛ وبحسب هذا اختلاف الصحابة؛ والتابعين؛ فكل من قرأ بالنصب جعل العامل "اغسلوا"؛ وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء؛ دون المسح؛ وهذا هو مذهب الجمهور؛ وعليه فعل النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وهو اللازم من قوله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح؛ فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار".

[ ص: 119 ] ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين؛ واختلفوا؛ فقالت فرقة منهم: الفرض في الرجلين المسح؛ لا الغسل؛ وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "الوضوء غسلتان؛ ومسحتان"؛ وروي أن الحجاج خطب بالأهواز؛ فذكر الوضوء؛ فقال: "اغسلوا وجوهكم وأيديكم؛ وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم؛ وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه؛ فاغسلوا بطونهما؛ وظهورهما؛ وعراقيبهما"؛ فسمع ذلك أنس بن مالك ؛ فقال: "صدق الله وكذب الحجاج "؛ قال الله تعالى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ؛ قال: وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما؛ وروي أيضا عن أنس أنه قال: "نزل القرآن بالمسح؛ والسنة بالغسل"؛ وكان عكرمة يمسح على رجليه؛ وليس في الرجلين غسل؛ إنما نزل فيهما المسح. وقال الشعبي : "نزل جبريل بالمسح"؛ ثم قال: "ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا؛ ويلغى ما كان مسحا؟"؛ وروي عن أبي جعفر أنه قال: "امسح على رأسك وقدميك"؛ وقال قتادة : "افترض الله غسلتين؛ ومسحتين".

وكل من ذكرنا فقراءته: "وأرجلكم"؛ بكسر اللام؛ وبذلك قرأ علقمة ؛ والأعمش ؛ والضحاك ؛ وغيرهم؛ وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح؛ وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل؛ وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا؛ ويقولون: "تمسحت للصلاة"؛ بمعنى: "غسلت أعضائي"؛ وقال أبو عبيدة ؛ وغيره؛ في تفسير قوله تعالى: فطفق مسحا ؛ إنه الضرب؛ ويقال: "مسح علاوته"؛ إذا ضربه؛ قال أبو علي : "فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل؛ ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما بـ "إلى"؛ كما وقع في الأيدي؛ وهي مغسولة؛ ولم يقع في الممسوح حد".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه؛ فكان الوضوء مغسولين؛ حد أحدهما؛ وممسوحين؛ حد أحدهما؛ وقال الطبري - رحمه الله -: "إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء [ ص: 120 ] إليهما؛ ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلا؛ ماسحا"؛ قال: "ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضئ أن يدخل رجليه في الماء؛ دون أن يمر يديه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد جوز ذلك قوم؛ منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار؛ وجمهور الأمة من الصحابة؛ والتابعين؛ على أن الفرض في الرجلين الغسل؛ وأن المسح لا يجزئ؛ وروي ذلك عن الضحاك ؛ وهو يقرأ بكسر اللام.

والكلام في قوله: "إلى الكعبين"؛ كما تقدم في قوله: "إلى المرافق"؛ واختلف اللغويون في "الكعبين"؛ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل؛ وهذان هما حد الوضوء؛ بإجماع؛ فيما علمت؛ واختلف: هل يدخلان في الغسل؛ أم لا؟ كما تقدم في المرفق؛ وقال قوم: الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم؛ حيث يجتمع شراك النعل.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا؛ ولكن عبد الوهاب؛ في التلقين؛ جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام"؛ قال الشافعي - رحمه الله -: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق؛ وروى الطبري عن يونس؛ عن أشهب؛ عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق؛ المحاذيان للعقب؛ وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويظهر ذلك من الآية؛ من قوله - في الأيدي -: "إلى المرافق"؛ أي: في كل يد مرفق؛ ولو كان كذلك في الأرجل لقيل: "إلى الكعوب"؛ فلما كان في كل رجل كعبان؛ خصا بالذكر.

وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن [ ص: 121 ] أبي سلمة ؛ وابن وهب : ذلك من فروض الوضوء؛ في الذكر؛ والنسيان؛ وقال ابن عبد الحكيم: ليس بفرض مع الذكر؛ وقال مالك : هو فرض مع الذكر؛ ساقط مع النسيان.

وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب؛ واختلف فيه؛ فقال الأبهري: الترتيب سنة؛ وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزئ؛ واختلف في العامد؛ فقيل: يجزئ؛ ويرتب في المستقبل؛ وقال أبو بكر القاضي؛ وغيره: لا يجزئ؛ لأنه عابث.

وقوله تعالى: وإن كنتم جنبا : "الجنب"؛ مأخوذ من "الجنب"؛ لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب؛ ومن المجاورة والقرب؛ قيل: والجار الجنب ؛ ويحتمل "الجنب"؛ أن يكون من البعد؛ إذ البعد جنابة؛ ومنه "تجنبت الشيء"؛ إذا بعدت عنه؛ فكأنه جانب الطهارة؛ وعلى هذا يحتمل أن يكون الجار الجنب هو البعيد الجوار؛ ويكون مقابلا للصاحب بالجنب.

و "فاطهروا"؛ أمر بالاغتسال بالماء؛ ولذلك رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ وابن مسعود ؛ وغيرهما؛ أن الجنب لا يتيمم البتة؛ بل يدع الصلاة حتى يجد الماء؛ وقال جمهور الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء؛ وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء؛ بقوله تعالى: أو لامستم النساء ؛ إذ الملامسة هنا الجماع؛ والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء؛ وتمر اليد مع ذلك عليه؛ هذا هو مشهور المذهب؛ وروى محمد بن مروان الظاهري؛ وغيره؛ عن مالك أنه يجزئ في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء؛ دون تدلك؛ وقد تقدم في سورة "النساء" تفسير قوله - عز وجل -: وإن كنتم مرضى ؛ إلى قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ؛ وقراءة من قرأ: "من الغيط".

وقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ؛ "الإرادة": صفة ذات؛ وجاء الفعل مستقبلا؛ مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة؛ فإنها تجيء مؤتنفة؛ من تطهير المؤمنين؛ وإتمام النعم عليهم.

وتعدية "أراد"؛ وما تصرف منه بهذه اللام؛ عرف في كلام العرب؛ ومنه قول الشاعر:

[ ص: 122 ]

أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل



قال سيبويه : وسألته - رحمه الله - عن هذا؛ فقال: المعنى: إرادتي لأنسى؛ ومن ذلك قول قيس بن سعد :


أردت لكيما يعلم الناس أنها ...     سراويل قيس والوفود شهود



ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام؛ وما قال الخليل لسيبويه أخصر؛ وأحسن؛ ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن "من" تصير زائدة في الواجب؛ وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة "من"؛ وإن لم يكن النفي واقعا على الفعل الواقع على الحرج؛ ولهذا نظائر.

و"الحرج": الضيق؛ والحرجة: الشجر الملتف المتضايق؛ ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل: "إنه كان في مثل الحرج من الرماح"؛ ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "دين الله يسر"؛ وقوله - صلى اللـه عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة"؛ وجاء لفظ الآية على العموم؛ والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم؛ والرخصة فيه؛ وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا؛ ولذلك قال أسيد: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ".

وقوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم ؛ الآية؛ إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله - تبارك وتعالى.

"ولعلكم" ترج في حق البشر؛ وقرأ سعيد بن المسيب : "يطهركم"؛ بسكون الطاء؛ وتخفيف الهاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية