الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع الرابع : قوله : ( ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) قال الفراء : معنى أخاف أعلم . والأكثرون على أنه محمول على ظاهره ، والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم - عليه السلام - عالما بأن أباه سيموت على ذلك الكفر ، وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ، ويجوز أن يصر فيموت على الكفر ، فيكون من أهل العقاب ، ومن كان كذلك كان خائفا لا قاطعا ، واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفا إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه ، كما يقال أنا خائف على ولدي ، أما قوله : ( فتكون للشيطان وليا ) فذكروا في الولي وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار ، والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز ، وإن لم يجز حمله على الولاية الحقيقية لقوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] وقال : ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) [ العنكبوت : 25 ] وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) [ إبراهيم : 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة ، أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير مواليا للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) [ النساء : 119 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : وليا أي تاليا للشيطان تليه ، كما يسمى المطر الذي يأتي تاليا وليا . فإن قيل : قوله : ( أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالا من العذاب نفسه وأعظم ، فما السبب لذلك ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال : [ ص: 194 ] ( ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : 72 ] فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم . واعلم أن إبراهيم - عليه السلام - رتب هذا الكلام في غاية الحسن ؛ لأنه نبه أولا على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال ، وترك التقليد ، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه - عليه السلام - أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق ، فإن قوله في مقدمة كل كلام : ( ياأبت ) دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب ، وختم الكلام بقوله : ( إني أخاف ) وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى : ( وبالوالدين إحسانا ) [ البقرة : 83 ] والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان ، فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نورا على نور .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقا لطيفا يورد الكلام لا على سبيل العنف ؛ لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعيا في الإغواء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما روى أبو هريرة أنه قال - عليه السلام - : " أوحى الله إلى إبراهيم - عليه السلام - أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري " والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية