الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين [وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات] بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر [التوسعة في] [ ص: 378 ] النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبدا، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره: يا أيها النبي ذاكرا سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله: إنا أحللنا لك أزواجك أي نكاحهن، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه: تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها، والفرس أي ركوبه، والخمر أي شربها، ولحم الخنزير أي أكله، والبحر أي ركوبه، والثور أي الحرث به، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله، ولا يصرف عنه إلا بمشعر، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: اللاتي آتيت أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية [ ص: 379 ] في العقد، قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره أجورهن أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل وما ملكت يمينك

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: مما أفاء أي رد الله الذي له الأمر كله عليك مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاما لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاما لأن ما في يد الكافر ليس له وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحدا شيئا إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيها على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية [ ص: 380 ] القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضا إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم وبنات عمك الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: وبنات عماتك من نساء بني عبد المطلب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: وبنات خالك جاريا أيضا في الإفراد والجمع على ذلك النحو وبنات خالاتك أي من نساء بني زهرة [ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه].

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الأعمال فقال: [ ص: 381 ] اللاتي هاجرن وأشار بقوله: معك إلى أن الهجرة قبل الفتح أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في علمه سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد; روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت [إليه] فعذرني ثم أنزل الله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك الآية، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر. كنت من الطلقاء، قال الترمذي حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، [و] أتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاما بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: وامرأة أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة إن وهبت نفسها للنبي

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من [ ص: 382 ] الخلائق تشريفا له به وتعليقا للحكم بالوصف، لأنه لو قال "لك" كان ربما وقع في بعض الأوهام - كما قال الزجاج - أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بيانا لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: إن أراد النبي أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة أن يستنكحها أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبينا لخصوصيته واصفا لمصدر أحللنا مفخما للأمر بهاء المبالغة ملتفتا إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: خالصة لك وزاد المعنى بيانا بقوله: من دون المؤمنين أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم [يكن] عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله [ ص: 383 ] صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: قد أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد علمنا ما فرضنا أي قدرنا بعظمتنا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعنا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: عليهم أي المؤمنين في أزواجهم أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاما للحرة والرقيقة قال: وما ملكت أيمانهم أي من أن أحدا غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفا ونشرا مشوشا بقوله: لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهما وأشدهم [لله] خشية، [ ص: 384 ] وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" خفف عنه سبحانه بقوله: وكان الله أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلا وأبدا غفورا رحيما أي بليغ الستر فهو إن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفا بذلك أزلا وأبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية