الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما صيام السبعة فيجوز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله ، فإذا رجع إليهم [ ص: 342 ] فإن صامها في طريقه ، أو في مكة بعد أيام منى وبعد التحلل الثاني جاز ، وإن صامها قبل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول لم يجز سواء رجع إلى وطنه ، أو لم يرجع ذكره القاضي .. . .

قال - في رواية أبي طالب - : إن قدر على الهدي وإلا يصوم بعد الأيام ، قيل له : بمكة أم في الطريق ؟ قال : كيف شاء .

وقال - في رواية الأثرم - وقد سأله عن صيام السبعة ، يصومهن في الطريق أم في أهله ؟ فقال : كل قد تأوله الناس ووسع في ذلك كله .

والأصل في ذلك قوله تعالى : ( وسبعة إذا رجعتم ) . فذهب القاضي وأصحابه وغيرهم إلى أن معنى ذلك : إذا رجعتم من الحج ؛ لأنه قد قال تعالى : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) ثم قال : ( وسبعة إذا رجعتم ) فتقدير الرجوع من الحج - الذي تقدم ذكره - أولى من تقدير الرجوع من السفر ؛ لأنه لم يذكر ، ولأنه لو رجع إلى أهله قبل الإحلال الثاني ، لم يجز الصوم . فعلم أن الحكم مقيد بالرجوع من الحج فقط ، ويصح تسميته راجعا من الحج بمعنيين :

أحدهما : أنه قد عاد إلى حاله قبل الإحرام من الإحلال .

[ ص: 343 ] والثاني : أنه يفعل في أماكن مخصوصة ، فإذا قضاه ورجع عن تلك الأماكن وانتقل عنها سمي راجعا بهذا الاعتبار .

وفيها طريقة أخرى أحسن من هذه ، وهي طريقة أكثر السلف أن معنى الآية : إذا رجعتم إلى أهلكم وهي طريقة أحمد ؛ لأنه قال : إذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم .

وقال -في رواية جماعة - : عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ؛ وإن شاء صام في الطريق ؛ وذلك لما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لما قدم مكة ، قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) . وذكر الحديث . وهذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وروى البخاري عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج ، فقال : ( أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة ، إلا من قلد الهدي ، طفنا بالبيت وبين الصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ) وقال : ( من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة [ ص: 344 ] فقد تم حجنا وعلينا الهدي ) كما قال تعالى : ( فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) إلى أمصاركم ، الشاة تجزئ ، فجمعوا بين نسكين في عام الحج والعمرة ، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) .

وقوله : إلى أمصاركم : يحتمل أن يكون مرفوعا وموقوفا .

وعن جابر .. . .

وأيضا : فإن الرجوع المطلق إنما يفهم منه الرجوع إلى الوطن لكن تأخير الصوم إلى مصره رخصة كما روى سعيد عن عطاء : ( وسبعة إذا رجعتم ) قال : " هي رخصة إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا قدم إلى منزله " .

وعن الحسن مثله : " هي رخصة " .

[ ص: 345 ] وروى الأشج عن مجاهد في قوله : " وسبعة إذا رجعتم " قال : "إن شاء صامها في الطريق فعل فإنما هي رخصة " ، وذلك لأن هذا بمنزلة قوله : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) لما انعقد سبب الوجوب وتم ، كان التأخير إلى حال الإقامة رخصة ، وكذلك : صوم السبعة إنما سببه المتعة وهي قد تمت بمكة ، لكن لما كان الحاج مسافرا ، والصوم يشق : جوز له الشرع التأخير إلى أن يقدم .

وأيضا : فإن الحجيج إذا صدروا من منى : فقد شرعوا في الرجوع إلى أهلهم ، فإن عرفات ومنى : هي منتهى سفرهم ، فالمصدر عنها قفول من سفرهم ورجوع إلى أوطانهم ، ومقامهم بعد ذلك بمكة ، أو المدينة ، أو غيرهما ، كما يعرض لسائر المسافرين من المقام . والأفعال الممتدة مثل الحج والرجوع ونحوه : يقع الاسم على المتلبس به إذا شرع فيه ، وإن كان لا يتناول الاسم على التمام إلا إذا قضاه .

يبين هذا : أن الصوم لا يختص بمكان ولا بحال دون حال ، فلو قيل : لا يجوز له الصوم بالطريق ، أو بمكة : لكان منعا للصوم في بعض الأمكنة ، وذلك غير معهود من الشرع ولا معنى تحته .

وأيضا : فعند أصحابه أن صوم السبعة قد وجب في ذمته بمكة ، وقد نص أحمد على ذلك ؛ فقال - في رواية المروذي - إذا مات ولم يصم السبعة أيام يطعم عنه بمكة موضع وجب عليه ، وكل صوم وجب في ذمته : فله البدار إلى فعله كقضاء رمضان والنذر .

[ ص: 346 ] ودليل وجوبه : أنه وجب بدلا عن الهدي ، والبدل لا يتأخر وجوبه عن وجوب المبدل منه ؛ لأنه قائم مقامه .

والأفضل أن يؤخر صومها إلى أن يقدم ؛ لأنه أخذ بالرخصة ، وخروج من الخلاف ، كما قلنا في صوم رمضان وأولى إلا أن بينهما فرق . فإن صوم رمضان يصومه مقيما في غير وطنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية