الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                1218 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم جميعا عن حاتم قال أبو بكر حدثنا حاتم بن إسمعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت أنا محمد بن علي بن حسين فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب فقال مرحبا بك يا ابن أخي سل عما شئت فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا فقلت أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بيده فعقد تسعا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع قال اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد وقدم علي من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت إن أبي أمرني بهذا قال فكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال صدقت صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا جعفر بن محمد حدثني أبي قال أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسمعيل وزاد في الحديث وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                ( باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم )

                                                                                                                فيه حديث جابر رضي الله عنه ، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ، ونفائس من مهمات القواعد ، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه ، ورواه أبو داود كرواية مسلم . قال القاضي : وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه ، وأكثروا ، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا ، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا ، ولو تقصي لزيد على هذا القدر قريب منه ، وقد سبق الاحتجاج بنكت منه في أثناء شرح الأحاديث السابقة ، وسنذكر ما يحتاج إلى التنبيه عليه على ترتيبه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                قوله : ( عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب فقال : مرحبا بك يا ابن أخي سل عما شئت ، فسألته وهو أعمى ، فحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا ) هذه القطعة فيها فوائد ، منها : أنه يستحب لمن ورد عليه [ ص: 330 ] زائرون أو ضيفان ونحوهم أن يسأل عنهم ؛ لينزلهم منازلهم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم ، وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل جابر بمحمد بن علي ، ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما مرحبا ، ومنها ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه ، وهذا سبب حل جابر زري محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه .

                                                                                                                وقوله : ( وأنا يومئذ غلام شاب فيه ) تنبيه على أن سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرا ، وأما الرجل الكبير فلا يحسن إدخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه ، ومنها جواز إمامة الأعمى البصراء ، ولا خلاف في جواز ذلك ، لكن اختلفوا في الأفضل على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا : أحدها إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير ؛ لأن الأعمى أكمل خشوعا لعدم نظره إلى الملهيات ، والثاني البصير أفضل ؛ لأنه أكثر احترازا من النجاسات ، والثالث هما سواء لتعادل فضيلتهما ، وهذا الثالث هو الأصح عند أصحابنا ، وهو نص الشافعي . ومنها أن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره ، ومنها جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه ، ومنها جواز تسمية الثدي للرجل ، وفيه خلاف لأهل اللغة منهم من جوزه كالمرأة ، ومنهم من منعه وقال يختص الثدي بالمرأة ويقال في الرجل : ثندؤة وقد سبق إيضاحه في أوائل كتاب الإيمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه من أهل النار " .

                                                                                                                وقوله : ( قام في نساجة ) هي بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم ، هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي داود ، ووقع في بعض النسخ في ( ساجة ) بحذف النون ، ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور قال : وهو الصواب . قال : والساجة والساج جميعا ثوب كالطيلسان وشبهه . قال : ورواية النون وقعت في رواية الفارسي قال : ومعناه ثوب ملفق ، قال : قال بعضهم : النون خطأ وتصحيف ، قلت : ليس كذلك بل كلاهما صحيح ، ويكون ثوبا ملفقا على هيئة الطيلسان . قال القاضي في المشارق : الساج والساجة الطيلسان ، وجمعه ( سيجان ) . قال : وقيل : هي الخضر منها خاصة . وقال الأزهري : هو طيلسان مقور ينسج كذلك . قال : وقيل : هو الطيلسان الحسن ، قال : ويقال : الطيلسان بفتح اللام وكسرها وضمها وهي أقل .

                                                                                                                و قوله : ( ورداؤه إلى جنبه على المشجب ) هو بميم مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم جيم ثم باء موحدة وهو اسم لأعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت .

                                                                                                                قوله : ( أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هي بكسر الحاء وفتحها ، والمراد حجة الوداع

                                                                                                                قوله : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ) يعني مكث بالمدينة بعد الهجرة .

                                                                                                                قوله : ( ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه ، ويتعلموا المناسك والأحكام ، ويشهدوا أقواله وأفعاله ، ويوصيهم ليبلغ الشاهد [ ص: 331 ] الغائب وتشيع دعوة الإسلام ، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد ، وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها .

                                                                                                                قوله : ( كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال القاضي : هذا ما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وهم لا يخالفونه ، ؛ ولهذا قال جابر : وما عمل من شيء عملنا به ، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ، ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم ، ومثله تعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرام النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس وقد ولدت : ( اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ) فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء ، وقد سبق بيانه في باب مستقل فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار ، وهو أن تشد في وسطها شيئا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها ، وهو شبيه بثفر الدابة بفتح الفاء . وفيه صحة إحرام النفساء وهو مجمع عليه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فصلى ركعتين ) فيه استحباب ركعتي الإحرام ، وقد سبق الكلام فيه مبسوطا .

                                                                                                                قوله : ( ثم ركب القصواء ) هي بفتح القاف وبالمد . قال القاضي : ووقع في نسخة العذري ( القصوى ) بضم القاف والقصر . قال : وهو خطأ . قال القاضي : قال ابن قتيبة : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق : القصواء ، والجدعاء ، والعضباء . قال أبو عبيد : العضباء اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم . ولم تسم بذلك لشيء أصابها ، قال القاضي : قد ذكر هنا أنه ركب القصواء ، وفي آخر هذا الحديث ( خطب على القصواء ) ، وفي غير مسلم خطب ( على ناقته الجدعاء ) ، وفي حديث آخر ( على ناقة خرماء ) ، وفي آخر ( العضباء ) ، وفي حديث آخر ( كانت له ناقة لا تسبق ) ، وفي آخر تسمى ( مخضرمة ) ، وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة ، وأن هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها ، خلاف ما قال أبو عبيد ، لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك . قال الحربي : العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان ، قال ابن الأعرابي : القصواء التي قطع طرف أذنها ، والجدع أكثر منه . وقال الأصمعي : والقصو مثله قال : وكل قطع في الأذن جدع ، فإن جاوز الربع فهي عضباء ، والمخضرم مقطوع الأذنين ، فإن اصطلمتا فهي صلماء . وقال أبو عبيد : القصواء المقطوعة الأذن عرضا ، والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوقه . وقال الخليل : المخضرمة مقطوعة الواحدة ، والعضباء مشقوقة الأذن . قال الحربي : فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها ، وإن كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها . هذا آخر كلام القاضي . وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره : إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 332 ] قوله : ( نظرت إلى مد بصري ) هكذا هو في جميع النسخ ( مد بصري ) ، وهو صحيح ، ومعناه منتهى بصري وأنكر بعض أهل اللغة ( مد بصري ) ، وقال : الصواب ( مدى بصري ) ، وليس هو بمنكر بل هما لغتان المد أشهر .

                                                                                                                قوله : ( بين يديه من راكب وماش ) فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو مجمع عليه ، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة . قال الله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر واختلف العلماء في الأفضل منهما ، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء : الركوب أفضل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه أعون له على وظائف مناسكه ، ولأنه أكثر نفقة . وقال داود : ماشيا أفضل لمشقته . وهذا فاسد ؛ لأن المشقة ليست مطلوبة .

                                                                                                                قوله : ( وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ) معناه الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله في حجته تلك .

                                                                                                                قوله : ( فأهل بالتوحيد ) يعني قوله ( لبيك لا شريك لك ) وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تقول في تلبيتها من لفظ الشرك ، وقد سبق ذكر تلبيتهم في باب التلبية .

                                                                                                                قوله : ( فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته ) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : فيه إشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كما روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد : ( لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك ) ، وعن ابن عمر رضي الله عنه : ( لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل ) ، وعن أنس رضي الله عنه : ( لبيك حقا تعبدا ورقا ) . قال القاضي : قال أكثر العلماء : المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال مالك ، والشافعي والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( قال جابر لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة ) فيه دليل لمن قال بترجيح الإفراد ، وقد سبقت المسألة مستقصاة في أول الباب السابق .

                                                                                                                قوله : ( حتى أتينا البيت ) فيه بيان أن السنة للحاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا للقدوم وغير ذلك .

                                                                                                                قوله : ( حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ) فيه أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم ، وهو مجمع عليه ، وفيه أن الطواف سبع طوافات ، وفيه أن [ ص: 333 ] السنة أيضا الرمل في الثلاث الأول ، ويمشي على عادته في الأربع الأخيرة . قال العلماء : الرمل هو أسرع المشي مع تقارب الخطى ، وهو الخبب ، قال أصحابنا : ولا يستحب الرمل إلا في طواف واحد في حج أو عمرة . أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل بلا خلاف . ولا يسرع أيضا في كل طواف حج ، وإنما يسرع في واحد منها ، وفيه قولان مشهوران للشافعي . أصحهما طواف يعقبه سعي ، ويتصور ذلك في طواف القدوم ، ويتصور في طواف الإفاضة ، ولا يتصور في طواف الوداع ، والقول الثاني أنه لا يسرع إلا في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا ، ويسرع في طواف العمرة إذ ليس فيه إلا طواف واحد . والله أعلم .

                                                                                                                قال أصحابنا : والاضطباع سنة في الطواف ، وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما ، وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ، ويكون منكبه الأيمن مكشوفا . قالوا : وإنما يسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله والله أعلم

                                                                                                                وأما قوله : ( استلم الركن ) فمعناه مسحه بيده ، وهو سنة في كل طواف ، وسيأتي شرحه واضحا حيث ذكره مسلم بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                قوله : ( ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت ) هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف ، واختلفوا هل هما واجبتان أم سنة ؟ وعندنا فيه خلاف حاصله ثلاثة أقوال أصحها أنهما سنة ، والثاني أنهما واجبتان ، والثالث إن كان طوافا واجبا فواجبتان ، وإلا فسنتان . وسواء قلنا : واجبتان أو سنتان لو تركهما لم يبطل طوافه ، والسنة أن يصليهما خلف المقام ، فإن لم يفعل ففي الحجر ، وإلا ففي المسجد وإلا ففي مكة وسائر الحرم ، ولو صلاهما في وطنه وغيره من أقاصي الأرض جاز وفاتته الفضيلة ، ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيا ، ولو أراد أن يطوف أطوفة استحب أن يصلي عقب كل طواف ركعتيه ، فلو أراد أن يطوف أطوفة بلا صلاة ثم يصلي بعد الأطوفة لكل طواف ركعتيه قال أصحابنا : يجوز ذلك . وهو خلاف الأولى ، ولا يقال : مكروه وممن قال بهذا المسور بن مخرمة وعائشة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ، وكرهه ابن عمر والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء

                                                                                                                قوله : ( فكان أبي يقول : ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد [ ص: 334 ] و قل يا أيها الكافرون معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث عن أبيه عن جابر ، قال : كان أبي يعني محمدا يقول : إنه قرأ هاتين السورتين . قال جعفر : ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر ، بل عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين .

                                                                                                                قوله : ( قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ) معناه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد . وأما قوله : ( لا أعلم ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ) ليس هو شكا في ذلك لأن لفظة ( العلم ) تنافي الشك ، بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر البيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ، ثم صلى ركعتين قرأ فيهما : قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد .

                                                                                                                قوله : ( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا ) فيه دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ، ثم يخرج من باب الصفا ليسعى . واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم .

                                                                                                                قوله : ( ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبر ، وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة ) .

                                                                                                                في هذا اللفظ أنواع من المناسك منها أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا ، وبه قال الشافعي ومالك والجمهور ، وقد ثبت في رواية النسائي في هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابدءوا بما بدأ الله به هكذا بصيغة الجمع .

                                                                                                                ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة ، وفي هذا الرقي خلاف ، قال جمهور أصحابنا : هو سنة ليس بشرط ولا واجب ، فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة . وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا : لا يصح سعيه حتى يصعد على شيء من الصفا والصواب الأول . قال أصحابنا : [ ص: 335 ] لكن يشترط أن لا يترك شيئا من المسافة بين الصفا والمروة ، فليلصق عقبيه بدرج الصفا ، إذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها ، وهكذا في المرات السبع يشترط في كل مرة أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه ، وأصابعه بما ينتهي إليه . قال أصحابنا : يستحب أن يرقى على الصفا والمروة ، حتى يرى البيت إن أمكنه .

                                                                                                                ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ، ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ، ويدعو ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات . هذا هو المشهور عند أصحابنا . وقال جماعة من أصحابنا : يكرر الذكر ثلاثا ، والدعاء مرتين فقط . والصواب الأول .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( وهزم الأحزاب وحده ) معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين ، ولا بسبب من جهتهم ، والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة ، وقيل سنة خمس .

                                                                                                                قوله : ( ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ) هكذا هو في النسخ ، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ . قال : وفيه إسقاط لفظة لا بد منها وهي ( حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ) ، ولا بد منها ، وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم ، وكذا ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي الموطأ : ( حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى خرج منه ) ، وهو بمعنى رمل . هذا كلام القاضي . وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم : ( حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ) كما وقع في الموطأ وغيره والله أعلم .

                                                                                                                وفي هذا الحديث استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه ، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع ، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده ، ولو مشى في الجميع ، أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة . هذا مذهب الشافعي وموافقيه . وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان إحداهما كما ذكر ، والثانية تجب عليه إعادته .

                                                                                                                قوله : ( ففعل على المروة ما فعل على الصفا ) فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا ، وهذا متفق عليه .

                                                                                                                قوله : ( حتى إذا كان آخر طواف على المروة ) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة والرجوع إلى الصفا ثانية والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا ، فيكون ابتداء السبع من الصفا ، وآخرها بالمروة . وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا : يحسب [ ص: 336 ] الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا ، وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما ، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد ؟ " إلى آخره ) . هذا الحديث سبق شرحه واضحا في آخر الباب الذي قبل هذا ، و ( جعشم ) بضم الجيم وبضم الشين المعجمة وفتحها ذكره الجوهري وغيره .

                                                                                                                قوله : ( فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها ) فيه إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها ؛ لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره .

                                                                                                                قوله : ( فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة ) التحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها .

                                                                                                                قوله : ( قلت : إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هذا قد سبق شرحه في الباب قبله ، وأنه يجوز تعليق الإحرام بإحرام كإحرام فلان .

                                                                                                                قوله : ( فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي ) هذا أيضا تقدم شرحه في الباب السابق ، وفيه إطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص ؛ لأن عائشة لم تحل ، ولم تكن ممن ساق الهدي ، والمراد بقوله ( حل الناس كلهم ) أي معظمهم ، و ( الهدي ) بإسكان الدال وكسرها وتشديد الياء مع الكسر وتخفيف مع الإسكان .

                                                                                                                وأما قوله : ( وقصروا ) فإن قصروا ولم يحلقوا مع أن الحلق أفضل لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج ، فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ) يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة [ ص: 337 ] سبق بيانه واشتقاقه مرات ، وسبق أيضا مرات أن الأفضل عند الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية عملا بهذا الحديث ، وسبق بيان مذاهب العلماء فيه . وفي هذا بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى قبل يوم التروية ، وقد كره مالك ذلك ، وقال بعض السلف : لا بأس به ، ومذهبنا أنه خلاف السنة .

                                                                                                                قوله : ( وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ) فيه بيان سنن إحداها أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي ، كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي ، هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب أفضل ، وللشافعي قول آخر ضعيف أن المشي أفضل ، وقال بعض أصحابنا : الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينهما والسنة الثانية أن يصلي بمنى هذه الصلوات الخمس . والثالثة أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة ، وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب ، فلو تركه فلا دم عليه بالإجماع .

                                                                                                                قوله : ( ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس ، وهذا متفق عليه .

                                                                                                                قوله : ( وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ) فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى ، لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعا ، فالسنة أن ينزلوا بنمرة ، فمن كان له قبة ضربها ، ويغتسلون للوقوف قبل الزوال ، فإذا زالت الشمس سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام ، وخطب بهم خطبتين خفيفتين ، ويخفف الثانية جدا فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعا بينهما ، فإذا فرغ من الصلاة سار إلى الموقف .

                                                                                                                وفي هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها ، ولا خلاف في جوازه للنازل ، واختلفوا في جوازه للراكب ، فمذهبنا جوازه ، وبه قال كثيرون ، وكرهه مالك وأحمد ، وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها إن شاء الله تعالى . وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر .

                                                                                                                وقوله : ( بنمرة ) هي بفتح النون وكسر الميم هذا أصلها ، ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها وهو إسكان الميم مع فتح النون وكسرها ، وهي موضع بجانب عرفات وليست من عرفات .

                                                                                                                [ ص: 338 ] قوله : ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ) معنى هذا أن قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام ، وهو جبل في المزدلفة ، يقال له قزح . وقيل : إن المشعر الحرام كل المزدلفة ، وهو بفتح الميم على المشهور ، وبه جاء القرآن ، وقيل بكسرها .

                                                                                                                وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات ، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات ؛ لأن الله تعالى أمر بذلك في قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي سائر العرب غير قريش ، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة ؛ لأنها من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه .

                                                                                                                قوله : ( فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ) أما ( أجاز ) فمعناه جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات .

                                                                                                                وأما قوله : ( حتى أتى عرفة ) فمجاز والمراد قارب عرفات لأنه فسره بقوله : ( وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها ) ، وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات ، وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعا خلاف السنة .

                                                                                                                قوله : ( حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ) أما ( القصواء ) فتقدم ضبطها وبيانها واضحا في أول هذا الباب ، وقوله : ( فرحلت ) هو بتخفيف الحاء أي جعل عليها الرحل .

                                                                                                                وقوله : ( بطن الوادي ) هو وادي ( عرنة ) بضم العين وفتح الراء وبعدها نون ، وليست عرنة من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة إلا مالكا فقال : هي من عرفات . وقوله : ( فخطب الناس ) فيه استحباب الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع ، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء ، وخالف فيها المالكية ، ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة إحداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر ، والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم النفر الأول ، وهو اليوم الثاني من أيام التشريق . قال أصحابنا : وكل هذه الخطب أفراد ، وبعد صلاة الظهر ، إلا التي يوم عرفات فإنها خطبتان وقبل الصلاة . قال أصحابنا : ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى . والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ) معناه متأكدة [ ص: 339 ] التحريم شديدته ، وفي هذا دليل لضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ) في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض ، وأنه لا قصاص في قتلها ، وأن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام

                                                                                                                وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( تحت قدمي ) فإشارة إلى إبطاله . وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة ) فقال المحققون والجمهور اسم هذا الابن إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وقيل : اسمه حارثة ، وقيل : آدم قال الدارقطني : وهو تصحيف ، وقيل : اسمه تمام ، وممن سماه آدم الزبير بن بكار . قال القاضي عياض : ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال : وكذا رواه أبو داود . قيل : هو وهم ، والصواب ابن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر بن الخطاب ، وتأوله أبو عبيد فقال : دم ربيعة لأنه ولي الدم ، فنسبه إليه قالوا : وكان هذا الابن المقتول طفلا صغيرا يحبو بين البيوت ، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر ، قاله الزبير بن بكار .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم في الربا : ( إنه موضوع كله ) معناه الزائد على رأس المال كما قال الله تعالى : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم وهذا الذي ذكرته إيضاح ، وإلا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث ؛ ، لأن الربا هو الزيادة ، فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة ، والمراد بالوضع الرد والإبطال .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله ) فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف ، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن ، والتحذير من التقصير في ذلك ، وقد جمعتها أو معظمها في رياض الصالحين .

                                                                                                                وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أخذتموهن بأمان الله ) هكذا هو في كثير من الأصول وفي بعضها بأمانة الله .

                                                                                                                [ ص: 340 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) قيل : معناه قوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل : المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم ، وقيل : المراد بإباحة الله والكلمة قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذا الثالث هو الصحيح ، وبالأول قال الخطابي والهروي وغيرهما . وقيل : المراد بالكلمة الإيجاب والقبول ، ومعناه على هذا بالكلمة التي أمر الله تعالى بها . والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم ( ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ) قال المازري : قيل : المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ، ولم يرد زناها ، لأن ذلك يوجب جلدها ، ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه . وقال القاضي عياض : كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء ، ولم يكن ذلك عيبا ولا ريبة عندهم ، فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك .

                                                                                                                هذا كلام القاضي . والمختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحدا من محارم الزوجة . فالنهي يتناول جميع ذلك . وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه ؛ ، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه أو ممن أذن له في الإذن في ذلك ، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن والله أعلم .

                                                                                                                أما الضرب المبرح فهو الضرب الشديد الشاق ، ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق ، و ( البرح ) المشقة ، و ( المبرح ) بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء .

                                                                                                                وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب ، فإن ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب ، ووجبت الكفارة في ماله .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع .

                                                                                                                قوله : ( فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ) هكذا ضبطناه [ ص: 341 ] ( ينكتها ) بعد الكاف تاء مثناة فوق . قال القاضي : كذا الرواية بالتاء المثناة فوق . قال : وهو بعيد المعنى .

                                                                                                                قال : قيل : صوابه ( ينكبها ) بباء موحدة قال : ورويناه في سنن أبي داود بالتاء المثناة من طريق ابن الأعرابي ، وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار . ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم ، ومنه ( نكب كنانته ) إذا قلبها . هذا كلام القاضي .

                                                                                                                قوله : ( ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ) فيه أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم ، وقد أجمعت الأمة عليه ، واختلفوا في سببه فقيل : بسبب النسك ، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ، وقال أكثر أصحاب الشافعي : هو بسبب السفر ، فمن كان حاضرا أو مسافرا دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر . وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولا ، وأنه يؤذن للأولى ، وأنه يقيم لكل واحدة منهما ، وأنه لا يفرق بينهما ، وهذا كله متفق عليه عندنا .

                                                                                                                قوله : ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ) في هذا الفصل مسائل وآداب للوقوف منها أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب إلى الموقف . ومنها أن الوقوف راكبا أفضل . وفيه خلاف بين العلماء وفي مذهبنا ثلاثة أقوال أصحها أن الوقوف راكبا أفضل ، والثاني غير الراكب أفضل ، والثالث هما سواء .

                                                                                                                ومنها أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة ، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات ، فهذا هو الموقف المستحب ، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط ، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات ، وأن الفضيلة في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات ، فإن عجز فليقرب منه بحسب الإمكان ، وسيأتي في آخر الحديث بيان حدود عرفات إن شاء الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم : " وعرفة كلها موقف " ومنها استحباب استقبال الكعبة في الوقوف .

                                                                                                                ومنها أنه ينبغي أن يبقى في الوقوف حتى تغرب الشمس ويتحقق كمال غروبها ، ثم يفيض إلى مزدلفة ، فلو أفاض قبل غروب الشمس صح وقوفه وحجه ، ويجبر ذلك بدم . وهل الدم واجب أم مستحب فيه قولان للشافعي أصحهما أنه سنة ، والثاني واجب ، وهما مبنيان على أن الجمع بين الليل والنهار واجب على من وقف بالنهار أم لا . وفيه قولان أصحهما سنة ، والثاني واجب .

                                                                                                                وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني يوم النحر ، فمن حصل بعرفات [ ص: 342 ] في جزء من هذا الزمان صح وقوفه ، ومن فاته ذلك فاته الحج . هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء . وقال مالك : لا يصح الوقوف في النهار منفردا ، بل لا بد من الليل وحده ، فإن اقتصر على الليل كفاه وإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه . وقال أحمد : يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة ، وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج إلا به والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله : ( وجعل حبل المشاة بين يديه ) فروي ( حبل ) بالحاء المهملة وإسكان الباء ، وروي ( جبل ) بالجيم وفتح الباء . قال القاضي عياض رحمه الله : الأول أشبه بالحديث ، و ( حبل المشاة ) أي مجتمعهم ، و ( حبل الرمل ) ما طال منه وضخم ، وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث تسلك الرجالة .

                                                                                                                وأما قوله : ( فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ) هكذا هو في جميع النسخ ، وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ . قال : قيل : لعل صوابه ( حين غاب القرص ) . هذا كلام القاضي . ويحتمل أن الكلام على ظاهره ، ويكون قوله : ( حتى غاب القرص ) بيانا لقوله ( غربت الشمس وذهبت الصفرة ) ، فإن هذه تطلق مجازا على مغيب معظم القرص ، فأزال ذلك الاحتمال بقوله ( حتى غاب القرص ) . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( وأردف أسامة خلفه ) فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة ، وقد تظاهرت به الأحاديث

                                                                                                                قوله : ( وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ) معنى ( شنق ) ضم وضيق ، وهو بتخفيف النون ، و ( مورك الرحل ) قال الجوهري : قال أبو عبيد : المورك والموركة يعني بفتح الميم وكسر الراء هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب ، وضبطه القاضي بفتح الراء قال : وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة ، وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة ، وبأصحاب الدواب الضعيفة .

                                                                                                                قوله : ( يقول بيده السكينة السكينة ) مرتين منصوبا أي الزموا السكينة ، وهي الرفق والطمأنينة . ففيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة ، فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في الحديث الآخر .

                                                                                                                قوله : ( كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة ) ( الحبال ) هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل ، وهو التل اللطيف من الرمل الضخم .

                                                                                                                [ ص: 343 ] وقوله : ( حتى تصعد ) هو بفتح التاء المثناة فوق وضمها يقال : صعد في الحبل وأصعد ، ومنه قوله تعالى : إذ تصعدون وأما المزدلفة فمعروفة سميت بذلك من التزلف والازدلاف ، وهو التقرب ، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتقربوا منها ، وقيل : سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات ، وتسمى ( جمعا ) بفتح الجيم وإسكان الميم ، سميت بذلك لاجتماع الناس فيها .

                                                                                                                واعلم أن المزدلفة كلها من الحرم قال الأزرقي في تاريخ مكة ، والماوردي وأصحابنا في كتب المذهب وغيرهم : حد مزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ، وليس الحدان منها ، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والحبال الداخلة في الحد المذكور .

                                                                                                                قوله : ( حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ) فيه فوائد منها أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء ، ويكون هذا التأخير بنية الجمع ، ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء ، وهذا مجمع عليه ، لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك ، ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم . والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر سفرا يبلغ فيه مسافة القصر ، وهو مرحلتان قاصدتان . وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وإن كان قصيرا ، وقال بعض أصحابنا : هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو حنيفة . والله أعلم .

                                                                                                                قال أصحابنا : ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات ، أو في الطريق ، أو في موضع آخر ، وصلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك ، لكنه خلاف الأفضل ، هذا مذهبنا ، وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين ، وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث ، وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين : يشترط أن يصليهما بالمزدلفة ، ولا يجوز قبلها ، وقال مالك : لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة إلا من به أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق ، ومنها أن يصلي الصلاتين في وقت الثانية بأذان للأولى ، وإقامتين لكل واحدة إقامة ، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي ، وقال مالك : يؤذن ويقيم للأولى ، ويؤذن ويقيم أيضا للثانية ، وهو محكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : أذان واحد وإقامة واحدة ، وللشافعي وأحمد قول أنه يصلي كل واحدة بإقامتها بلا أذان ، وهو محكي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر . وقال الثوري : يصليهما جميعا بإقامة واحدة ، وهو يحكى أيضا عن ابن عمر والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 344 ] وأما قوله : ( لم يسبح بينهما ) فمعناه لم يصل بينهما نافلة ، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح ، ففيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين ، ولا خلاف في هذا لكن اختلفوا هل هو شرط للجمع أم لا ؟ والصحيح عندنا أنه ليس بشرط ، بل هو سنة مستحبة ، وقال بعض أصحابنا : هو شرط . أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف .

                                                                                                                قوله : ( ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة )

                                                                                                                في هذا الفصل مسائل إحداها أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك ، وهذا مجمع عليه ، لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة ؟ والصحيح من قولي الشافعي أنه واجب لو تركه أثم وصح حجه ولزمه دم .

                                                                                                                والثاني أنه سنة لا إثم في تركه ولا يجب فيه دم ، ولكن يستحب . وقال جماعة من أصحابنا : هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات . قاله من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقاله خمسة من أئمة التابعين وهم علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري والله أعلم .

                                                                                                                والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة فالسنة لهم الدفع قبل الفجر كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                وفي أقل المجزي من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا الصحيح ساعة في النصف الثاني من الليل ، والثاني ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس ، والثالث معظم الليل ، والله أعلم .

                                                                                                                المسألة الثانية السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن وظائف هذا اليوم كثيرة فسن المبالغة بالتبكير بالصبح ليتسع الوقت للوظائف .

                                                                                                                الثالثة يسن الأذان والإقامة لهذه الصلاة وكذلك غيرها من صلوات المسافر ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كما في الحضر . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس ) أما ( القصواء ) فسبق في أول الباب بيانها . وأما قوله : ( ثم ركب ) ففيه أن السنة الركوب ، وأنه أفضل من المشي ، وقد سبق بيانه مرات ، وبيان الخلاف فيه . وأما ( المشعر الحرام ) فبفتح الميم هذا هو الصحيح ، وبه جاء القرآن وتظاهرت به روايات الحديث ، ويقال أيضا بكسر الميم ، والمراد به هنا ( قزح ) بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة ، وهو جبل معروف في المزدلفة . وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح ، وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث : المشعر الحرام جميع المزدلفة .

                                                                                                                وأما قوله : ( فاستقبل القبلة ) يعني الكعبة ( فدعاه ) إلى آخره فيه أن [ ص: 345 ] الوقوف على قزح من مناسك الحج ، وهذا لا خلاف فيه ، لكن اختلفوا في وقت الدفع منه ، فقال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء : لا يزال واقفا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدا كما في هذا الحديث ، وقال مالك : يدفع منه قبل الإسفار والله أعلم .

                                                                                                                وقوله : ( أسفر جدا ) الضمير في ( أسفر ) يعود إلى الفجر المذكور أولا قوله : ( جدا ) بكسر الجيم أي إسفارا بليغا .

                                                                                                                قوله في صفة الفضل بن عباس : ( أبيض وسيما ) أي حسنا .

                                                                                                                قوله : ( مرت به ظعن يجرين ) الظعن بضم الظاء والعين ويجوز إسكان العين جمع ظعينة كسفينة وسفن ، وأصل الظعينة البعير الذي عليه امرأة ، ثم تسمى به المرأة مجازا لملابستها البعير ، كما أن الرواية أصلها الجمل الذي يحمل الماء ، ثم تسمى به القربة لما ذكرناه . وقوله : ( يجرين ) بفتح الياء .

                                                                                                                قوله : ( فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ) فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات ، وغضهن عن الرجال الأجانب ، وهذا معنى قوله : ( وكان أبيض وسيما حسن الشعر ) يعني أنه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه . وفي رواية الترمذي وغيره في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل ، فقال له العباس : لويت عنق ابن عمك ، قال : رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهم ، فهذا يدل على أن وضعه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها . وفيه أن من رأى منكرا وأمكنه إزالته بيده لزمه إزالته ، فإن قال بلسانه ولم ينكف المقول له وأمكنه بيده أثم ما دام مقتصرا على اللسان والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ) أما محسر فبضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيي وكل ، ومنه قوله تعالى : ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير وأما قوله : ( فحرك قليلا ) فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع . قال [ ص: 346 ] أصحابنا : يسرع الماشي ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ، ويكون ذلك قدر رمية حجر . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي ) أما قوله : ( سلك الطريق الوسطى ) ففيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة ، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات ، وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب ، ويرجع في طريق المأزمين ليخالف الطريق تفاؤلا بغير الحال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا ، وخرج من الثنية السفلى ، وخرج إلى العيد في طريق ، ورجع في طريق آخر ، وحول رداءه في الاستسقاء . وأما الجمرة الكبرى فهي جمرة العقبة ، وهي التي عند الشجرة ، وفيه أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ، ولا يفعل شيئا قبل رميها ، ويكون ذلك قبل نزوله ، وفيه أن الرمي بسبع حصيات ، وأن قدرهن بقدر حصى الخذف ، وهو نحو حبة الباقلاء ، وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر ، فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونها حجرا ، ولا يجوز عند الشافعي والجمهور الرمي بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما لا يسمى حجرا ، وجوزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض ، وفيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة ، وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة ، فإن رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين ، وموضع الدلالة لهذه المسألة ( يكبر مع كل حصاة ) فهذا تصريح بأنه رمى كل حصاة وحدها مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث الرمي ( لتأخذوا عني مناسككم ) وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ، ومكة عن يساره ، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة . وقيل : يقف مستقبل الكعبة ، وكيفما رمى أجزأه بحيث يسمى رميا بما يسمى حجرا . والله أعلم .

                                                                                                                وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمي جمرة العقبة لا غير بإجماع المسلمين ، وهو نسك بإجماعهم ، ومذهبنا أنه واجب ليس بركن ، فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم وصح حجه . وقال مالك : يفسد حجه ، ويجب رميها بسبع حصيات . فلو بقيت منهن واحدة لم تكفه الست .

                                                                                                                وأما قوله : فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف فهكذا هو في النسخ ، وكذا نقله القاضيعياض عن معظم النسخ . قال : وصوابه مثل حصى الخذف قال : وكذلك رواه غير مسلم ، وكذا رواه بعض رواة مسلم . هذا كلام القاضي . قلت : والذي في النسخ من غير لفظة ( مثل ) هو الصواب ، بل لا يتجه غيره ، ولا يتم الكلام إلا كذلك ، يكون قوله حصى الخذف متعلقا بحصيات أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف يكبر مع كل حصاة ، فحصى الخذف متصل [ ص: 347 ] بحصيات ، واعترض بينهما ( يكبر مع كل حصاة ) ، وهذا هو الصواب . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ثم انصرف إلى النحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ) هكذا هو في النسخ ثلاثا وستين بيده ، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان فإنه رواه بدنة . قال : وكلامه صواب ، والأول أصوب ، قلت : وكلاهما حري فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده قال القاضي : فيه دليل على أن المنحر موضع معين من منى ، وحيث ذبح منها أو من الحرم أجزأه . وفيه استحباب تكثير الهدي وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة . وفيه استحباب ذبح المهدي هديه بنفسه ، وجواز الاستنابة فيه ، وذلك جائز بالإجماع إذا كان النائب مسلما ، ويجوز عندنا أن يكون النائب كافرا كتابيا بشرط أن ينوي صاحب الهدي عند دفعه إليه أو عند ذبحه .

                                                                                                                وقوله : ( ما غبر ) أي ما بقي ، وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ، ولا يؤخر بعضها إلى أيام التشريق .

                                                                                                                وأما قوله : ( وأشركه في هديه ) فظاهره أنه شاركه في نفس الهدي . قال القاضي عياض : وعندي أنه لم يكن تشريكا حقيقة ، بل أعطاه قدرا يذبحه ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة ، وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذي وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن ، وهي تمام المائة . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ) البضعة بفتح الباء لا غير ، وهي القطعة من اللحم ، وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته . قال العلماء : لما كان الأكل من كل واحدة سنة ، وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر ليكون آكلا من مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة ، ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ما تيسر ، وأجمع العلماء على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته سنة ليس بواجب .

                                                                                                                قوله : ( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ) هذا الطواف هو طواف الإفاضة ، وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين ، وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر ، وأفضله بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق ، ويكون ذلك ضحوة يوم النحر ، ويجوز في جميع يوم النحر بلا كراهة ، ويكره تأخيره عنه بلا عذر ، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة ، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة ، ولا آخر لوقته ، بل يصح ما دام الإنسان حيا . وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع إلى عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه ، [ ص: 348 ] لأنه قدمه على الوقوف . واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الإفاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع عقب طواف القدوم ، ولو طاف بنية الوداع أو القدوم أو التطوع وعليه طواف إفاضة وقع عن طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا ، نص عليه الشافعي ، واتفق الأصحاب عليه كما لو كان عليه حجة الإسلام فحج بنية قضاء أو نذر أو تطوع فإنه يقع عن حجة الإسلام . وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء : لا يجزئ طواف الإفاضة بنية غيره .

                                                                                                                واعلم أن طواف الإفاضة له أسماء فيقال أيضا طواف الزيارة ، وطواف الفرض والركن ، وسماه بعض أصحابنا طواف الصدر ، وأنكره الجمهور قالوا : وإنما طواف الصدر طواف الوداع والله أعلم .

                                                                                                                وفي هذا الحديث استحباب الركوب في الذهاب من منى إلى مكة ، ومن مكة إلى منى ونحو ذلك من مناسك الحج ، وقد ذكرنا قبل هذا مرات المسألة وبينا أن الصحيح استحباب الركوب ، وأن من أصحابنا من استحب المشي هناك .

                                                                                                                وقوله : ( فأفاض إلى البيت فصلى الظهر ) فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه . وأما قوله : ( فصلى بمكة الظهر ) فقد ذكر مسلم بعد هذا في أحاديث طواف الإفاضة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر فصلى الظهر بمنى . ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال . ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك ، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى ، وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها وسلم بهم ، ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى ، فكانت له صلاتان ، ولهم صلاة .

                                                                                                                وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة ، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث . وقد بسطت إيضاح هذا الجواب في شرح المهذب والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه ) أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( انزعوا ) فبكسر الزاي ، ومعناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء . وأما قوله : ( فأتى بني عبد المطلب ) فمعناه أتاهم بعد فراغه من طواف الإفاضة . وقوله : ( يسقون على زمزم ) معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس .

                                                                                                                وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم ) معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء .

                                                                                                                وفيه فضيلة العمل في هذا الاستقاء ، واستحباب شرب ماء زمزم .

                                                                                                                وأما زمزم فهي البئر المشهورة في [ ص: 349 ] المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعا . قيل : سميت زمزم لكثرة مائها يقال : ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيرا ، وقيل : لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه ، وقيل : لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها ، وقيل : إنها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها ، منها أن عليا رضي الله عنه قال : خير بئر في الأرض زمزم ، وشر بئر في الأرض برهوت . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة ) هو بسين مهملة ثم ياء مثناة تحت مشددة أي كان يدفع بهم في الجاهلية .

                                                                                                                قوله : ( فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم ، فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل ) . أما المشعر فسبق بيانه ، وأنه بفتح الميم على المشهور ، وقيل بكسرها ، وأن قزح الجبل المعروف في المزدلفة ، وقيل : كل المزدلفة ، وأوضحنا الخلاف فيه بدلائله .

                                                                                                                وهذا الحديث ظاهر الدلالة في أنه ليس كل المزدلفة . وقوله : ( أجاز ) أي جاوز . وقوله : ( ولم يعرض ) هو بفتح الياء وكسر الراء .

                                                                                                                ومعنى الحديث أن قريشا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ، ولا يقفون بعرفات ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات ، وكانت قريش تقول : نحن أهل الحرم فلا نخرج منه ، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش ، فجاوز إلى عرفات لقول الله عز وجل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي جمهور الناس فإن من سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون منها .

                                                                                                                وأما قوله : ( فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل ) ففيه مجاز تقديره فأجاز متوجها إلى عرفات حتى قاربها فضربت له القبة بنمرة قريب من عرفات ، فنزل هناك حتى زالت الشمس ، ثم خطب وصلى الظهر والعصر ثم دخل أرض عرفات حتى وصل الصخرات فوقف هناك ، وقد سبق هذا واضحا في الرواية الأولى .




                                                                                                                الخدمات العلمية