الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ الحلف بأيمان المسلمين ]

وهذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة ، أو قال : جميع الأيمان تلزمني ، أو حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد ، قالت المالكية إنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العريان وإطعام الجياع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحظة لما غلب الحلف به عرفا ، فألزمناه به ، لأنه المسمى العرفي ، فيقدم على المسمى اللغوي ، واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة ، ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمياتها ، وأنهم يصومون شهرين متتابعين ، أو يحجون ، بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها ، قالوا : وقد صرح الأصحاب بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة ، فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلي ، قالوا : وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر أنه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط وإطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه ، دون ما هو مذكور قبلها ; لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت ، وتبطل معها إذا بطلت ، كالعقود في المعاملات والعيوب في الأعواض في المبايعات ونحو ذلك ، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن من المبيع عند الإطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله ، وكذلك إذا كان الشيء عيبا في العادة رد به المبيع ، فإن تغيرت العادة بحيث لم يعد عيبا لم يرد به المبيع ، قالوا : وبهذا تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد ، وهذا مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف فيه ، وإن وقع الخلاف في تحقيقه : هل وجد أم لا ؟ قالوا : وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين ، فلا تكاد تجد أحدا يحلف ، فلا تسوغ الفتيا بإلزامه .

[ قول المالكية في العرف وما ينبني عليه ] :

قالوا : وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوى في طول الأيام ، فمهما تجدد في العرف [ ص: 66 ] فاعتبره ، ومهما سقط فألغه ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك ، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به ، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك ، قالوا : فهذا هو الحق الواضح ، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ، قالوا : وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات ; فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية ، وقد تصير الكناية صريحا تستغني عن النية ، قالوا : وعلى هذه القاعدة فإذا قال " أيمان البيعة تلزمني " خرج ما يلزمه على ذلك . وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نية ، فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا متبادرا إلى الذهن من غير قرينة حملت يمينه عليه ، فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه ، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه ، انتهى .

وهذا محض الفقه ، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل ، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم ، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان .

ولم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادا على عهد السلف الطيب ، بل هي من الأيمان الحادثة المبتدعة التي أحدثها الجهلة الأول ; ولهذا قال جماعة من أهل العلم : إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء ألبتة ، أفتى بذلك جماعة من العلماء ، ومن متأخري من أفتى بها تاج الدين أبو عبد الله الأرموي صاحب كتاب الحاصل قال ابن بزيزة في شرح الأحكام : سأله عنها بعض أصحابنا ، فكتب له بخطه تحت الاستفتاء : هذه يمين لاغية ، لا يلزم فيها شيء ألبتة ، وكتب محمد الأرموي ، قال ابن بزيزة : وقفت على ذلك بخطه ، وثبت عندي أنه خطه ، ثم قال : وقال جماعة من العلماء : لا يلزم فيها شيء سوى كفارة اليمين بالله تعالى ، بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين بالله تعالى ، وما عداه التزامات لا أيمان .

قال : والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : { من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا : هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم ؟ وقد كان أبو عمر يفتي بأنه لا شيء فيها ألبتة ، حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي ، وعاب عليه ذلك .

قال : ومن العلماء من رأى أنه [ ص: 67 ] يختلف بحسب اختلاف الأحوال والمقاصد والبلاد ، فمن حلف بها قاصدا للطلاق أو العتاق لزمه ما ألزمه نفسه ، ومن لم يعلم مقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيده العرف الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان بالله ، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة ، وبه كان يفتي أبو بكر الطرطوشي ومن بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم ، ومن شيوخ عصرنا من كان يفتي بها بالطلاق الثلاث بناء على أنه العرف المستمر الجاري الذي يحصل علمه والقصد إليه عند كل حالف بها ، ثم ذكر اختلاف المغاربة : هل يلزم فيها الطلاق الثلاث أو الواحدة ؟ ثم قال : والمعتمد عليه فيها الرجوع إلى عرف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الأيمان ، فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يحملوه عليه ، ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل الذي هو اليمين : بالله ; إذ لا يسمى غير ذلك يمينا ، فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان ، قال : وعلى هذا كان يقول أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا .

قلت : ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مدرك آخر أفقه من هذا ، وعليه تدل فتاوى الصحابة رضي الله عنهم صريحا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم ، وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم ، فموجبها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به ، وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد الموجب وإن تعدد السبب ، ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة فإذا حلف بأيمان المسلمين أو الأيمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو بما يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حلف بكل كتاب أنزله الله أو بكل اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله ، فإذا أجزأ في هذه كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فلأن تجزئ الكفارة في هذه الأيمان بطريق الأولى والأحرى ، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالم شريعة أكمل منها غير ذلك ، وكذلك أفتى به أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة ، واختلف الفقهاء بعدهم ; فمنهم من يلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنا ما كان ، ومنهم من لا يلزمه بشيء منها ألبتة لأنها أيمان غير شرعية ، ومنهم من يلزمه الطلاق والعتاق ويخيره في الباقي بين التكفير والالتزام ، ومنهم من يحتم عليه التكفير ، ومنهم من يلزمه بالطلاق وحده دون ما عداه ، ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطا فإن كانت صيغة التزام فيمين كقوله " الطلاق يلزمني " لم يلزمه بذلك ، ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتي فيه بشيء ; فالأول قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة . [ ص: 68 ]

والثاني قول أهل الظاهر وجماعة من السلف ، والثالث قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن . والرابع قول بعض أصحاب الشافعي ، ويذكر قولا له ورواية عن أحمد . والخامس قول أبي ثور إبراهيم بن خالد . والسادس قول القفال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويحكى عنه نفسه .

والسابع قول جماعة من أهل الحديث . وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح وأفقه وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية