الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون

تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصل ، وبعذاب أهل القرى المجمل ، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم ، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهي أسباب المنهي عنه كقولهم : لا أعرفنك تفعل كذا ، ولا أرينك هنا .

والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنصر والدفع ، وذلك مستعمل تعريضا بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماما للموعظة والتوبيخ بطريق التنظير وقياس التمثيل ، ولذلك عقب بقوله بل ضلوا عنهم لأن التوبيخ آل إلى معنى نفي النصر .

وحرف ( لولا ) إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحضيض ، أي تحضيض فاعل الفعل الذي بعد ( لولا ) على تحصيل ذلك الفعل ، فإذا كان [ ص: 56 ] الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت ( لولا ) دالة على التوبيخ ونحوه إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره .

والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطأ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئا ، كقول عبدة بن الطبيب :


إن الذين ترونـهـم إخـوانكـم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا



وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جمع العقلاء عليهم جريا على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة .

و " قربانا " مصدر بوزن غفران ، منصوب على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله - تعالى - والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وهذا المصدر معترض بين " اتخذوا " ومفعوله ، و " من دون الله " يتعلق بـ " اتخذوا " . و " دون " بمعنى المباعدة ، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة ، وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشنيعها .

و ( بل ) بمعنى لكن إضرابا واستدراكا بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي ، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب ، بل ضلوا عنهم ، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم .

والضلال أصله : عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية ، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم ، وهذا نظير التهكم في قوله - تعالى - وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم في سورة القصص .

وأما قوله وذلك إفكهم فهو فذلكة لجملة فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله إلخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله ضلوا عنهم .

والإشارة بـ ذلك إلى ما تضمنه قوله الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله ، والإفك - بكسر الهمزة - والافتراء : نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فري الجلد ، فالافتراء الكذب الذي يقوله ، فعطف ما كانوا يفترون [ ص: 57 ] على إفكهم عطف الأخص على الأعم ، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل ، فهو إفك . وأما زعمهم أنها تقربهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه .

وإقحام فعل " كانوا " للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم . ومجيء يفترون بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر .

التالي السابق


الخدمات العلمية