الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي ) بفتح الجيم والدال منسوب إلى قبيلة جدالة ( واسمه عبد بن عبد عن عائشة أنها قالت : لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ) أي : ذا فحش من القول والفعل وإن كان استعماله في القول أكثر منه في الفعل والصفة ( ولا متفحشا ) أي : ولا متكلفا به أي : لم يكن الفحش له خلقيا ولا كسبيا ، قال القاضي : الفاحش ما جاوز الحد ، والفواحش المقابح ، ولهذا سمي الزنا فاحشة ، والمراد : بالفاحش في الحديث : ذو الفحش في كلامه وفعله ، والمتفحش الذي يتكلف الفحش ويتعمده فنفت عنه - صلى الله عليه وسلم - الفحش والتفحش به طبعا وتكلفا ذكره ميرك ( ولا صخابا في الأسواق ) بالصاد المهملة المفتوحة والخاء المعجمة المشددة أي : صياحا ، وقد جاء في الحديث سخابا بالسين أيضا على ما ذكره ميرك ، وقال الحنفي : وفي بعض النسخ بالسين المهملة ، وفعال قد يكون للنسبة كتمار ولبان وبه أول قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وفي النهاية : المقصود نفي الصخب لا نفي المبالغة كأنها نظرت إلى أن المعتاد هو المبالغة فنفته على صيغة المبالغة ، والمراد : نفيه مطلقا ، وقد يقال الغرض منه التنبيه على أنه لو كان في حقه لكان كاملا كسائر أوصافه على أحد التأويلات في الآية المذكورة ، وقيل : إن المقصود من أمثال هذا الكلام مبالغة النفي لا نفي المبالغة كما في قوله تعالى وما أنا بظلام للعبيد وقيل في الآية صح المبالغة باعتبار المقابلة للعبيد الموجودين بوصف الكثرة ، وقيل المراد بالمبالغة هنا وفي الحديث أصل الفعل ، وقال ابن حجر : عند قوله في الأسواق أي : ليس ممن ينافس في الدنيا وجمعها حتى يحضر الأسواق ، لذلك فذكرها إنما هو لكونها محل ارتفاع الأصوات لذلك لا لإثبات الصخب في غيرها أو لأنه إذا انتفى فيها انتفى في غيرها انتهى ، والظاهر بل الصواب أنه قيد احترازي فإنه كان يجهر في القراءة [ ص: 195 ] حالة الصلاة ويبالغ في إعلانه حال الخطبة ( ولا يجزي ) بفتح الياء فكسر الزاي من غير همزة من الجزاء أي : لا يكافئ ولا يجازي ( بالسيئة السيئة ) والباء للمبادلة ، وإطلاق السيئة على الأولى للمشاكلة كعكسه في قوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ولذا قالت ( ولكن يعفو ) أي : بباطنه ( ويصفح ) أي : يعرض بظاهره لما سبق ولقوله تعالى فاعف عنهم واصفح والصفح في الأصل الإعراض بصفحة الوجه ، والمراد : هنا عدم المقابلة بذكره وظهور أثره ، ووجه الاستدراك أن ما قبل لكن ربما يوهم أنه ترك الجزاء عجزا أو مع بقاء الغضب فاستدركه بذلك .

ومن عظيم عفوه حتى عن أعدائه المحاربين له حتى كسروا رباعيته وشجوا وجهه يوم أحد فشق ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم ، فقال : إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللهم اغفر لقومي أو اهد قومي فإنهم لا يعلمون أي اغفر لهم ذنب الكسرة والشجة لا مطلقا وإلا لأسلموا كلهم ذكره ابن حبان .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر اللهم املأ بطونهم نارا ) فلأنه كان حق الله فلم يعف عنه وما سبق من حقه فسامحه ، وروى الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن أجل أحبار اليهود الذين أسلموا أنه قال لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه بضم الموحدة أي : لم أمتحنهما : يسبق حلمه جهله أي : لو تصور منه جهل أو مراده بالجهل الغضب ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فكنت أتلطف له ؛ لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فابتعت منه تمرا إلى أجل فأعطيته الثمن ؛ فلما كان قبيل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت : ألا تقضيني يا محمد حقي فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل ، فقال عمر أي عدو الله أتقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أسمع فوالله لولا ما أحاذر قربه لضربت بسيفي رأسك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال : أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضي اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعا مكان منازعته فقلت يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله ، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فقد أخبرتهما ؛ أشهدك أني رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا .

وروى أبو داود أن أعرابيا جذبه بردائه حتى أثر في رقبته الشريفة لخشونته ، وهو يقول احملني على بعيري هذين أي : حملهما لي طعاما فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك فقال - صلى الله عليه وسلم - لا وأستغفر الله ثلاث مرات ولا أحملك حتى تقيدني من جذبتك فقال لا والله لا أقيدكها ثم دعا رجلا فقال له احمل له على بعيريه هذين على بعير تمرا وعلى الآخر شعيرا ) ورواه البخاري ، وفي روايته أنه لما جبذه تلك الجبذة الشديدة التفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء ، وفي هذا عظيم عفوه وصفحه [ ص: 196 ] وصبره على الأذى نفسا ومالا وتجاوزه عن جفاة الأعراب وحسن تدبيره لهم مع أنهم كالوحش الشارد والطبع المتنافر والمتباعد والحمر المستنفرة التي فرت من قسورة فمع ذلك ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه واجتمعوا عليه وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم واختاروه على أنفسهم وأوطانهم فظهر صدق الله في حقه أنه لعلى خلق عظيم وفي قوله فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية