الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ) في التجارة الحاضرة قولان : أحدهما : ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن . والثاني : ما يجوزه المشتري من العروض [ ص: 353 ] المنقولة ، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل : كالمطعوم ، بخلاف الأملاك ، ولهذا قال السدي ، والضحاك : هذا فيما إذا كان يدا بيد تأخذه وتعطي . وفي معنى الإدارة ، قولان : أحدهما : يتناولونها من يد إلى يد ، والثاني : يتبايعونها في كل وقت ، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض ، ولما كانت الرباع والأرض ، وكثير من الحيوان لا تقوي البينونة ، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها ، ولحقت بمبايعة الديون ، ولما كانت الكتابة في التجارة الحاضرة الدائرة بينهم شاقة ، رفع الجناح عنهم في تركها ؛ ولأن ما بيع نقدا يدا بيد لا يكاد يحتاج إلى كتابة ، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون ، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها ، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يدا بيد . وهذا الاستثناء في قوله : ( إلا أن تكون ) منقطع ؛ لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة ، وقيل : هو استثناء متصل ، وهو راجع إلى قوله : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) إلا أن يكون الأجل قريبا ، وهو المراد من التجارة الحاضرة ، وقيل : هو متصل راجع إلى قوله : ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) وقرأ عاصم ( تجارة حاضرة ) بنصبهما على أن كان ناقصة ، التقدير : إلا أن تكون هي أي : التجارة . وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون ( تكون ) تامة ، و ( تجارة ) فاعل بـ ( تكون ) وأجاز بعضهم أن ( تكون ) ناقصة وخبرها الجملة من قوله : ( تديرونها بينكم ) ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ، هذا على مذهب أكثر المفسرين ؛ إذ الكتابة عندهم ليست واجبة ، ومن ذهب إلى الوجوب فمعنى ( لا جناح ) لا إثم .

( وأشهدوا إذا تبايعتم ) هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ، ناجزا أو كالئا ؛ لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف ، وقيل : يعود إلى التجارة الحاضرة ، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد .

قيل : وهذه الآية منسوخة بقوله : ( فإن أمن بعضكم بعضا ) روي ذلك عن الجحدري ، والحسن ، وعبد الرحمن بن يزيد ، والحكم ، وقيل : هي محكمة ، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وابن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، والنخعي ، وداود بن علي ، وابنه أبو بكر ، والطبري .

قال الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . وقال عطاء : أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم ، أو نصف درهم ، أو ثلاث دراهم ، أو أقل من ذلك . وقال الطبري : لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد ، وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل . وذهب الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم ، قال ابن العربي : وهذا قول الكافة .

( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) هذا نهي ، ولذلك فتحت الراء ؛ لأنه مجزوم ، والمشدد إذا كان مجزوما كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها ؛ لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه ، فلو فك ظهر فيه الجزم ، واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارا أحدا ؛ بأن يزيد الكاتب في الكتابة أو يحرف ، وبأن يكتم الشاهد الشهادة ، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها ، قال معناه الحسن ، وطاوس ، وقتادة ، وابن زيد واختاره : الزجاج لقوله بعد : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، ويمتنع من الشهادة ، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد ، ولأنه تعالى قال ، فيمن يمتنع من أداء الشهادة : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) والآثم والفاسق متقاربان ، وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء : بأن يقولا : علينا شغل ولنا حاجة .

واحتمل أن يكون مبنيا للمفعول ، فنهي أن يضارهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة ، قال معناه أيضا ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، والسدي ، ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : [ ص: 354 ] ( ولا يضارر ) بالفك وفتح الراء الأولى ، رواها الضحاك عن ابن مسعود ، وابن كثير عن مجاهد ، واختاره الطبري ؛ لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما ، ورجح هذا القول بأنه لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، وإذا كان خطابا للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى أبو عمرو الذاني عن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضا فتحها ، وفك الفعل ، والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم .

وقرأ ابن القعقاع ، وعمرو بن عبيد : ولا ( يضار ) بجزم الراء ، وهو ضعيف ؛ لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن ، ثم أجريا الوصل مجرى الوقف .

وقرأ عكرمة ( ولا يضارر ) بكسر الراء الأولى والفك ( كاتبا ولا شهيدا ) بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر .

ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ ( ولا يضار ) بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن محيصن ( ولا يضار ) برفع الراء المشددة ، وهي نفي معناه النهي ، وقد تقدم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ؛ لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع .

( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) ظاهره أن مفعول ( تفعلوا ) المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله ( ولا يضار ) وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه - أي : الضرار - فسوق بكم ، أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ؛ إذ جعلوا محلا للفسق .

والخطاب في ( تفعلوا ) عائد على الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ( ولا يضار ) قد قدر مبنيا للفاعل ، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالخطاب للمشهود لهم ، وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى : وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .

( واتقوا الله ) أي : في ترك الضرار ، أو في جميع أوامره ونواهيه . ولما كان قوله : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) خطابا على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق .

( ويعلمكم الله ) هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في ( واتقوا ) تقديره : واتقوا الله مضمونا لكم التعليم والهداية ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالا مقدرة ، انتهى . وهذا القول - أعني : الحال _ ضعيف جدا ؛ لأن المضارع الواقع حالا ، لا يدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه ، ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ .

( والله بكل شيء عليم ) إشارة إلى إحاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء ، وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى . والثانية : تذكر بالنعم . والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد ، وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيرا ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) ومن أين تعرف التقوى ؟ وهل تعرف إلا بالعلم ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية