الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ( 20 ) )

وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) وجواب لهم عنه يقول لهم جل ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ، ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول ، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة .

فإن قال قائل : فإن ( من ) ليست في التلاوة ، فكيف قلت : معنى الكلام : إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل : قلنا في ذلك : معناه : أن الهاء والميم في قوله : إنهم ، كناية أسماء لم تذكر ، ولا بد لها من أن تعود على من كني عنه بها ، وإنما ترك ذكر " من " وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : ( من المرسلين ) عليه ، كما اكتفي في قوله : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) من إظهار " من " ، ولا شك أن معنى ذلك : وما منا إلا من له مقام معلوم ، كما قيل ( وإن منكم إلا واردها ) ومعناه : وإن منكم إلا من هو واردها ، فقوله : ( إنهم ليأكلون الطعام ) صلة لمن المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه ليبلغك الرسالة ، صلة لمن .

وقوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني ، والملك بصبره على ما [ ص: 253 ] أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطي ، وقسم له ، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطي غيره . يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه ، لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) . . الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) قال : يمسك عن هذا ، ويوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويبتلي بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يرى الطبري ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) . . الآية : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .

وقوله : ( وكان ربك بصيرا ) يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن .

كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ( وكان ربك بصيرا ) إن ربك لبصير بمن يجزع ، ومن يصبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية