الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى :

فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

يحتمل أن تكون "ما" زائدة؛ والتقدير: "فبنقضهم"؛ ويحتمل أن تكون اسما نكرة أبدل منه النقض؛ على بدل المعرفة من النكرة؛ التقدير: "فبفعل هو نقضهم للميثاق؛ وهذا هو المعنى في هذا التأويل؛ وقد تقدم في "النساء"؛ نظير هذا؛ و"لعناهم"؛ معناه: أبعدناهم من الخير أجمعه.

وقرأ ابن كثير ؛ ونافع ؛ وعاصم ؛ وأبو عمرو ؛ وابن عامر : "قاسية"؛ بالألف؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائي : "قسية"؛ دون ألف؛ وزنها "فعيلة"؛ فحجة الأولى قوله تعالى: فويل للقاسية قلوبهم ؛ وقوله: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ؛ والقسوة: غلظ القلب؛ ونبوه عن الرقة والموعظة؛ وصلابته؛ حتى لا ينفعل لخير.

ومن قرأ "قسية"؛ فهو من هذا المعنى: "فعيلة"؛ بمعنى "فاعلة"؛ كـ "شاهد"؛ و"شهيد"؛ وغير ذلك من الأمثلة؛ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: "قسية"؛ ليست من معنى القسوة؛ وإنما هي كالقسي من الدراهم؛ وهي التي خالطها غش وتدليس؛ فكذا القلوب؛ لم تصف للإيمان؛ بل خالطها الكفر؛ والفساد؛ ومن ذلك قول أبي زبيد:


لها صواهل في صم السلام كما ... صاح القسيات في أيدي الصياريف



[ ص: 130 ] ومنه قول الآخر:


فما زوداني غير سحق عمامة ...     وخمسمئ منها قسي وزائف



قال أبو علي : هذه اللفظة معربة؛ وليست بأصل في كلام العرب.

واختلف العلماء في معنى قوله: يحرفون الكلم ؛ فقال قوم - منهم ابن عباس -: تحريفهم هو بالتأويل؛ ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة؛ ولا يتمكن لهم ذلك؛ ويدل على ذلك بقاء آية الرجم؛ واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها. وقالت فرقة: بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا؛ وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين؛ فقوله تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ؛ يقتضي التبديل؛ ولا شك أنهم فعلوا الأمرين.

وقرأ جمهور الناس: "الكلم"؛ بفتح الكاف؛ وكسر اللام؛ وقرأ أبو عبد الرحمن ؛ وإبراهيم النخعي : "الكلام"؛ بالألف؛ وقرأ أبو رجاء : "الكلم"؛ بكسر الكاف؛ وسكون اللام.

وقوله تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به ؛ نص على سوء فعلهم بأنفسهم؛ أي: قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به؛ فنسوه؛ وتركوه؛ ثم أخبر - تبارك وتعالى- نبيه - عليه الصلاة والسلام - أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع على خائنة منهم؛ وغائلة؛ وأمور فاسدة؛ واختلف الناس في معنى: "خائنة"؛ في هذا الموضع؛ فقالت فرقة: "خائنة": مصدر؛ كـ "العاقبة"؛ وكقوله تعالى: فأهلكوا بالطاغية ؛ فالمعنى: على خيانة. وقال [ ص: 131 ] آخرون: معناه: على فرقة خائنة؛ فهي اسم فاعل؛ صفة المؤنث؛ وقال آخرون: المعنى: "على خائن"؛ فزيدت الهاء للمبالغة؛ كـ "علامة"؛ و"نسابة"؛ ومنه قول الشاعر:


حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ...     للغدر خائنة مغل الإصبع



وقرأ الأعمش : "على خيانة منهم"؛ ثم استثنى - تبارك وتعالى- منهم القليل؛ فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص؛ ويحتمل أن يكون في الأفعال.

وقوله تعالى: فاعف عنهم واصفح ؛ منسوخ بما في "براءة"؛ من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية؛ وباقي الآية وعد على الإحسان.

التالي السابق


الخدمات العلمية