الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        البحث الرابع : في أفعاله صلى الله عليه وسلم

                        اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى سبعة أقسام :

                        الأول : ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية ، كتصرف الأعضاء وحركات الجسد ، فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع ، ولا نهي عن مخالفة ، وليس فيه أسوة ، ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح .

                        [ ص: 139 ] القسم الثاني : ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة ، كالقيام والقعود ونحوهما ، فليس فيه تأس ، ولا به اقتداء ، ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور .

                        ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنه مندوب ، وكذا حكاه الغزالي في المنخول ، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به ، كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة .

                        القسم الثالث : ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئة مخصوصة ، كالأكل والشرب واللبس والنوم ، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة ، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة ، على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل ، وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات ، كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم ، فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي .

                        وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه ، هل يرجع فيه إلى الأصل ، وهو عدم التشريع ، أو إلى الظاهر ، وهو التشريع ، والراجح الثاني . وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوبا .

                        القسم الرابع : ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على أربع ، فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره ، وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمنع التأسي به أم لا ؟ وقال : ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النوع ، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك ، فهذا محل التوقف .

                        وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب ، فقال : ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في [ ص: 140 ] الواجب عليه كالضحى والوتر ، وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة ، وطلاق من تكره صحبته .

                        والحق أنه لا يقتدى به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا ، فإذا قال مثلا : هذا واجب علي مندوب لكم . كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبا لنا ، لا لكونه واجبا عليه ، وإن قال : هذا مباح لي أو حلال لي ، ولم يزد على ذلك ، لم يكن لنا أن نقول : هو مباح لنا ، أو حلال لنا ، وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل .

                        هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا ، أما لو ورد ما يدل على ذلك ، كما ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال ، فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه ، ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير ، وأما لو قال : هذا حرام علي وحدي ، ولم يقل : حلال لكم ، فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء ، أما لو قال : حرام علي ، حلال لكم ، فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء ، فليس في ترك الحلال ورع .

                        القسم الخامس : ما أبهمه صلى الله عليه وآله وسلم ; لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلا ، فقيل : يقتدى به في ذلك ، وقيل : لا .

                        قال إمام الحرمين في النهاية : وهذا عندي هفوة ظاهرة ، فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا ، فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة .

                        القسم السادس : ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبة له ، فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا ؟ فقيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز ، وقيل : هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب ، وهذا هو الحق ، فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب ، وإن لم يظهر السبب لم يجز ، وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين ، فهو جار مجرى القضاء ، فتعين علينا القضاء بما قضى به .

                        القسم السابع : الفعل المجرد عما سبق . فإن ورد بيانا كقوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص: 141 ] صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم وكالقطع من الكوع بيانا لآية السرقة ، فلا خلاف أنه دليل في حقنا وواجب علينا ، وإن ورد بيانا لمجمل كان حكمه حكم ذلك المجمل من وجوب وندب ، كأفعال الحج وأفعال العمرة وصلاة الفرض وصلاة الكسوف ، وإن لم يكن كذلك ، بل ورد ابتداء ، فإن علمت صفته في حقه من وجوب أو ندب أو إباحة ، فاختلفوا في ذلك على أقوال :

                        الأول : أن أمته مثله في ذلك الفعل ، إلا أن يدل عليه اختصاصه به ، وهذا هو الحق .

                        والثاني : أن أمته مثله في العبادات دون غيرها .

                        والثالث : الوقف .

                        والرابع : لا يكون شرعا لنا إلا بدليل .

                        وإن لم تعلم صفته في حقه ، وظهر فيه قصد القربة فاختلف فيه على أقوال :

                        الأول : أنه للوجوب ، وبه قال جماعة من المعتزلة ، وابن سريج وأبو سعيد الإصطخري [ ص: 142 ] وابن خيران وابن أبي هريرة . واستدلوا على ذلك بالقرآن والإجماع والمعقول : أما القرآن فبقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول .

                        وأما الإجماع : فلكون الصحابة كانوا يقتدون بأفعاله ، وكانوا يرجعون إلى رواية من يروي لهم شيئا منها في مسائل كثيرة منها : أنهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة : فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرجعوا إلى ذلك وأجمعوا عليه .

                        وأما المعقول : فلكون الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه .

                        وأجيب عن الآية الأولى بمنع تناول قوله : وما آتاكم الرسول للأفعال بوجهين :

                        الأول : أن قوله وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه أراد بقوله ما آتاكم ما أمركم .

                        الثاني : أن الإتيان إنما يأتي في القول .

                        والجواب عن الآية الثانية : أن المراد بالمتابعة فعل مثل ما فعله ، فلا يلزم وجوب فعل كل ما فعله ما لم يعلم أن فعله على وجه الوجوب ، والمفروض خلافه .

                        والجواب عن الآية الثالثة : أن لفظ الأمر حقيقة في القول بالإجماع ولا نسلم أنه [ ص: 143 ] يطلق على الفعل ، على أن الضمير في ( أمره ) يجوز أن يكون راجعا إلى الله سبحانه ; لأنه أقرب المذكورين .

                        والجواب عن الآية الرابعة : أن التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير في الصورة والصفة ، حتى لو فعل صلى الله عليه وآله وسلم شيئا على طريق التطوع ، وفعلناه على طريق الوجوب ، لم نكن متأسين به ، فلا يلزم وجوب ما فعله إلا إذا دل دليل آخر على وجوبه ، فلو فعلنا الفعل الذي فعله مجردا عن دليل الوجوب ، معتقدين أنه واجب علينا لكان ذلك قادحا في التأسي .

                        والجواب عن الآية الخامسة : أن الطاعة هي الإتيان بالمأمور أو بالمراد على اختلاف المذهبين ، فلا يدل ذلك على وجوب أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم .

                        وأما الجواب عن دعوى إجماع الصحابة ، فهم لم يجمعوا على كل فعل يبلغهم ، بل أجمعوا على الاقتداء بالأفعال على صفتها التي هي ثابتة لها من وجوب أو ندب أو نحوهما ، والوجوب في تلك الصورة المذكورة مأخوذ من الأدلة الدالة على وجوب الغسل من الجنابة .

                        وأما الجواب عن المعقول : فالاحتياط إنما يصار إليه إذا خلا عن الغرر قطعا ، وهاهنا ليس كذلك ; لاحتمال أن يكون ذلك الفعل حراما على الأمة ، وإذا احتمل لم يكن المصير إلى الوجوب احتياطا .

                        القول الثاني : أنه للندب ، وقد حكاه الجويني في البرهان عن الشافعي ، فقال : وفي كلام الشافعي ما يدل عليه ، وقال الرازي في المحصول : إن هذا القول نسب إلى الشافعي ، وذكر الزركشي في البحر أنه حكاه عن القفال وأبي حامد المروزي واستدلوا بالقرآن ، والإجماع ، والمعقول .

                        [ ص: 144 ] أما القرآن فقوله : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولو كان التأسي واجبا لقال : عليكم ، فلما قال : لكم ، دل على عدم الوجوب ، ولما أثبت الأسوة دل على رجحان جانب الفعل على الترك ، وإن يكن مباحا .

                        وأما الإجماع : فهو أنا رأينا أهل الأعصار متطابقين على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على أنه يفيد الندب ; لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان . وأما المعقول : فهو أن فعله إما أن يكون راجحا على العدم ، أو مساويا له ، أو دونه ، والأول متعين ; لأن الثاني والثالث مستلزمان أن يكون فعله عبثا ، وهو باطل ، وإذا تعين أنه راجح على العدم ، فالراجح على العدم قد يكون واجبا وقد يكون مندوبا ، والمتيقن هو الندب .

                        وأجيب عن الآية : بأن التأسي هو إيقاع الفعل على الوجه الذي أوقعه عليه ، فلو فعله واجبا ، أو مباحا ، وفعلناه مندوبا لما حصل التأسي .

                        وأجيب عن الإجماع : بأنا لا نسلم أنهم استدلوا بمجرد الفعل ; لاحتمال أنهم وجدوا مع الفعل قرائن أخر .

                        وأجيب عن المعقول : بأنا لا نسلم أن فعل المباح عبث ; لأن العبث هو الخالي عن الغرض ، فإذا حصل في المباح منفعة ناجزة لم يكن عبثا بل من حيث حصول النفع به خرج عن العبث ، ثم حصول الغرض في التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومتابعة أفعاله بين ، فلا يعد من أقسام العبث .

                        القول الثالث : أنه للإباحة ، قال الرازي في المحصول : وهو قول مالك ولم يحك الجويني قول الإباحة هاهنا ; لأن قصد القربة لا يجامع استواء الطرفين ، لكن حكاه غيره كما قدمنا عن الرازي ، وكذلك حكاه ابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب حملا على أقل الأحوال .

                        واحتج من قال بالإباحة : بأنه قد ثبت أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يكون صادرا على وجه يقتضي الإثم ; لعصمته ، فثبت أنه لا بد أن يكون إما مباحا أو مندوبا أو [ ص: 145 ] واجبا ، وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في رفع الحرج عن الفعل ، فأما رجحان الفعل فلم يثبت على وجوده دليل ، فثبت بهذا أنه لا حرج في فعله ، كما أنه لا رجحان في فعله ، فكان مباحا وهو المتيقن ، فوجب التوقف عنده وعدم مجاوزته إلى ما ليس بمتيقن .

                        ويجاب عنه : بأن محل النزاع - كما عرفت - هو كون ذلك الفعل قد ظهر فيه قصد القربة ، وظهورها ينافي مجرد الإباحة ، وإلا لزم أن لا يكون لظهورها معنى يعتد به .

                        القول الرابع : الوقف . قال الرازي في المحصول : وهو قول الصيرفي وأكثر المعتزلة وهو المختار انتهى . وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أكثر أصحاب الشافعي ، وحكاه أيضا عن الدقاق واختاره القاضي أبو الطيب الطبري ، وحكاه في اللمع عن الصيرفي وأكثر المتكلمين .

                        وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها ، والمتيقن مما هو فوقها الندب .

                        وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة ، بل كان مجردا مطلقا ، فقد اختلفوا فيه بالنسبة إلينا على أقوال :

                        الأول : أنه واجب علينا ، وقد روي هذا عن ابن سريج قال الجويني : وهو كذلك في النقل عنه ، وهو أجل قدرا من ذلك ، ولكن حكاه ابن الصباغ عن الإصطخري وابن خيران وابن أبي هريرة والطبري وأكثر متأخري الشافعية .

                        وقال سليم الرازي إنه ظاهر مذهب الشافعي ، واستدلوا بنحو ما استدل به القائلون بالوجوب مع ظهور قصد القربة .

                        [ ص: 146 ] ويجاب عنهم : بما أجيب به عن أولئك ، بل الجواب عن هؤلاء بتلك الأجوبة أظهر ; لعدم ظهور قصد القربة في هذا الفعل ، وقد اختار هذا القول أبو الحسين بن القطان والرازي في المعالم . قال القرافي : وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم الأصولية والفروعية ، ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق .

                        القول الثاني : أنه مندوب . قال الزركشي في البحر وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة ، ونقله القاضي وابن الصباغ عن الصيرفي والقفال الكبير . قال الروياني : هو قول الأكثرين ، وقال ابن القشيري في كلام الشافعي ما يدل عليه .

                        قلت : هو الحق ; لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن لم يظهر فيه قصد القربة ، فهو لا بد أن يكون لقربة ، وأقل ما يتقرب به هو المندوب ، ولا دليل يدل على زيادة على الندب ، فوجب القول به ، ولا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة ، فإن إباحة الشيء [ ص: 147 ] بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل ورود الشرع به ، فالقول بها إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو تفريط ، كما أن حمل فعله المجرد على الوجوب إفراط ، والحق بين المقصر والمغالي .

                        القول الثالث : أنه مباح ، نقله الدبوسي في التقويم عن أبي بكر الرازي ، وقال : إنه الصحيح واختاره الجويني في البرهان ، وهو الراجح عند الحنابلة ، ويجاب عنه بما ذكرناه قريبا .

                        القول الرابع : الوقف حتى يقوم دليل ، نقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية ، قال : واختاره الدقاق وأبو القاسم بن كج قال الزركشي : وبه قال جمهور أصحابنا ، وقال ابن فورك : إنه الصحيح ، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية ، واستدلوا بأنه لما كان محتملا للوجوب والندب والإباحة مع احتمال أن يكون من خصائصه كان التوقف متعينا ، ويجاب عنهم بمنع احتماله للإباحة لما قدمنا ، ومنع احتمال الخصوصية ; لأن أفعاله كلها محمولة على التشريع ، ما لم يدل دليل على الاختصاص ، وحينئذ فلا وجه للتوقف ، والعجب من اختيار مثل الغزالي والرازي له .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية