الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ نصاب الشهادة ]

وقد ذكر الله سبحانه نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع ; فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور ، وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال ; فقال في آية الدين : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه ، لا في طريق الحكم وما يحكم به الحاكم ، فإن هذا شيء وهذا شيء ، وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين ، وأمر في الشهادة على الوصية في السفر بإشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم ، وغير المؤمنين هم الكفار ، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين ، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولا ، وليس فيها منسوخ ، وليس لهذه الآية معارض ألبتة ، ولا يصح أن يكون المراد بقوله : { من غيركم } من غير قبيلتكم ، فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله : { من غيركم } أيتها القبيلة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية ، بل إنما فهم ما هي صريحة فيه ، وكذلك أصحابه من بعده ، وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ، ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك ، فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ، ولا بالنكول ، ولا باليمين المردودة ، ولا بأيمان القسامة ، ولا بأيمان اللعان ، وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه .

وقد اتفق المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان ، وكذلك توابعها من البيع ، والأجل فيه ، والخيار فيه ، والرهن ، والوصية للمعين ، وهبته ، والوقف عليه ، وضمان المال ، وإتلافه ، ودعوى رق مجهول النسب ، وتسمية المهر ، وتسمية عوض الخلع يقبل في ذلك رجل وامرأتان .

وتنازعوا في العتق ، والوكالة في المال ، والإيصاء إليه فيه ، ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ، ودعوى الأسير الإسلام السابق لمنع رقه ، وجناية الخطأ والعمد التي لا [ ص: 73 ] قود فيها ، والنكاح ، والرجعة ، هل يقبل فيها رجل وامرأتان أم لا بد من رجلين ؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد ، فالأول قول أبي حنيفة ، والثاني قول مالك والشافعي .

والذين قالوا لا يقبل إلا رجلان قالوا : إنما ذكر الله الرجل والمرأتين في الأموال ، دون الرجعة ، والوصية وما معهما ، فقال لهم الآخرون : ولم يذكر سبحانه وصف الإيمان في الرقبة إلا في كفارة القتل ، ولم يذكر فيها إطعام ستين مسكينا ، وقلتم : نحمل المطلق على المقيد إما بيانا وإما قياسا ، وقالوا أيضا : فإنه سبحانه إنما قال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وفي الآية الأخرى : { اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } بخلاف آية الدين فإنه قال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وفي الموضعين الآخرين لما لم يقل رجلان لم يقل فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان .

فإن قيل : اللفظ مذكر ; فلا يتناول الإناث .

قيل : قد استقر في عرف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكرين إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول الرجال والنساء ; لأنه يغلب المذكر عند الاجتماع كقوله : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } وقوله : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } وأمثال ذلك ، وعلى هذا فقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } يتناول الصنفين ، لكن قد استقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ، فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد ، بل هذا أولى ; فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون ، وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت ، فإذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبا في مجامع الرجال فلأن يسوغ ذلك فيما تشهده النساء كثيرا كالوصية والرجعة أولى .

يوضحه أنه قد شرع في الوصية استشهاد آخرين من غير المسلمين عند الحاجة ; فلأن يجوز استشهاد رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى ، بخلاف الديون فإنه لم يأمر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا ; إذ كانت مداينة المسلمين تكون بينهم وشهودهم حاضرون ، والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهل الذمة ، وكذلك الميت قد لا يشهده إلا النساء ، وأيضا فإنما أمر في الرجعة باستشهاد ذوي عدل ; لأن المستشهد هو المشهود عليه بالرجعة وهو الزوج لئلا يكتمها ، فأمر بأن يستشهد أكمل النصاب ، ولا يلزم إذا لم يشهد هذا الأكمل أن لا يقبل عليه شهادة النصاب الأنقص ، فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ [ ص: 74 ] الحقوق ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط أن يشهد عليه ذوي عدل ، ولا يكتم ، ولا يغيب ، ولو شهد عليه باللقطة رجل وامرأتان قبل بالاتفاق ، بل يحكم عليه بمجرد وصف صاحبها لها .

وقال تعالى في شهادة المال : { ممن ترضون من الشهداء } وقال في الوصية والرجعة { ذوي عدل منكم } لأن المستشهد هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه ، فإن لم يكن عدلا كان هو المضيع لحقه ، وهذا المستشهد يستشهد بحق ثابت عنده ، فلا يكفي رضاه به ، بل لا بد أن يكون عدلا في نفسه ، وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال هناك : { ممن ترضون من الشهداء } لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه ، وإذا قال من عليه الحق : أنا راض بشهادة هذا علي ، ففي قبوله نزاع ، والآية تدل على أنه يقبل ، بخلاف الرجعة والطلاق فإن فيهما حقا لله ، وكذلك الوصية فيها حق لغائب .

ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة : { أليس شهادتهما بنصف شهادة الرجل ؟ } فأطلق ولم يقيد ، ويوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمدعي لما قال : هذا غصبني أرضي ، فقال : { شاهداك أو يمينه } وقد عرف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له ، فعلم أن هذا يقوم مقام الشاهدين ، وأن قوله : { شاهداك أو يمينه } إشارة إلى الحجة الشرعية التي شعارها الشاهدان ، فإما أن يقال لفظ " شاهدان " معناه دليلان يشهدان ، وإما أن يقال رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمنزلة الشاهد ، يوضحه أيضا أنه لو لم يأت المدعي بحجة حلف المدعى عليه ، فيمينه كشهادة آخر ; فصار معه دليلان يشهدان أحدهما البراءة والثاني اليمين ، وإن نكل عن اليمين فمن قضى عليه بالنكول قال : النكول إقرار أو بدل ، وهذا جيد إذا كان المدعى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدعي ، قال عثمان لابن عمر : تحلف أنك بعته وما به عيب تعلمه ، فلما لم يحلف قضى عليه ، وأما الأكثرون فيقولون : إذا نكل ترد اليمين على المدعي فيكون نكول الناكل دليلا ، ويمين المدعي ثانيا ; فصار الحكم بدليلين شاهد ويمين ، والشارع إنما جعل الحكم في الخصومة بشاهدين لأن المدعي لا يحكم له بمجرد قوله ، والخصم منكر ، وقد يحلف أيضا ، فكان أحد الشاهدين يقاوم الخصم المنكر ; فإن إنكاره ويمينه كشاهد ، ويبقى الشاهد الآخر خبر عدل لا معارض له ; فهو حجة شرعية لا معارض لها [ ص: 75 ]

وفي الرواية إنما يقبل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقوى منه ، فاطرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية يوضحه أيضا أن المقصود بالشهادة أن يعلم بها ثبوت المشهود به ، وأنه حق وصدق ، فإنها خبر عنه ، وهذا لا يختلف بكون المشهود مالا أو طلاقا أو عتقا أو وصية ، بل من صدق في هذا صدق في هذا ، فإذا كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يصدقان في الأموال فكذلك صدقهما في هذا ; وقد ذكر الله سبحانه حكمة تعدد الاثنين في الشهادة ، وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة وتضل عنها فتذكرها الأخرى ، ومعلوم أن تذكيرها لها بالرجعة والطلاق والوصية مثل تذكيرها لها بالدين وأولى ، وهو سبحانه أمر بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ ; لأن عقل المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه ، ولهذا جعلت على النصف من الرجل في الميراث والدية والعقيقة والعتق ; فعتق امرأتين يقوم مقام عتق رجل ، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتق الله بكل عضو منهما عضوا منه من النار } ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هي في التحمل ، فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات ، ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع ، ويحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين ، وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد .

قال شيخنا قدس الله روحه : ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجها ، قال : لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا تنسى إحداهما ، بخلاف الأداء فإنه ليس [ في ] الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين ، ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وقت التحمل ألا يحكم بأقل منهما ; فإنه سبحانه أمر باستشهاد رجلين في الديون ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، ومع هذا فيحكم بشاهد واحد ويمين الطالب ، ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك .

فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع عن الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه سأله عقبة بن الحارث فقال : إني تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت : إنها أرضعتنا ، فأمره بفراق امرأته ، فقال : إنها كاذبة ، فقال : دعها عنك } ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة ، وإن كانت أمة وشهادتها على فعل نفسها ، وهو أصل في شهادة القاسم والخارص والوزان والكيال على فعل نفسه [ ص: 76 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية