الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 452 ] فصل ( فيما يعتبر في الطبيب والعامل من العلم ) .

وينبغي أن يستعين في كل شيء بأعلم أهله كما عليه نظر عقلاء الناس ; لأن الأعلم أقرب إلى الإصابة . ولمالك في الموطأ عن زيد بن أسلم { أن رجلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح فاحتقن الدم وإن الرجل دعا رجلين من بني أنمار ينظران إليه فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما أيكم أطب ؟ فقالا أو في الطب خير يا رسول الله قال أنزل الدواء الذي أنزل الداء } فأما الجاهل فلا يستعين به لما سيأتي .

قال ابن عقيل في الفنون جهال الأطباء هم الوباء في العالم ، وتسليم المرضى إلى الطبيعة أحب إلي من تسليمهم إلى جهال الطب . وإن استطب جاهلا فيحتمل أن يقال إن ظن ضررا لم يجز ، وإن ظن السلامة بقرينة لم يحرم ، وإن استوى الحال عندهم فينبغي أن يكون كاستواء الحال في طريق الحج ، وفي الجواز قولان هناك .

وقد ذكر في المغني ما ذكره غيره أنه إن تطبب غير حاذق في صناعته لم تحل له المباشرة ولهذا لم ينف الأصحاب عنه الضمان إلا مع علم الحذق منه ولم تجن يده .

المراد والله أعلم بالعلم الظن واحتجوا بما رواه أبو داود عن نصر بن عاصم الأنطاكي ومحمد بن الصباح عن الوليد بن مسلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن } .

وقال ابن نصر حدثني ابن جريج قال أبو داود لم يروه إلا الوليد لا ندري هو صحيح أم لا .

ورواه ابن ماجه من حديث الوليد وكذا النسائي .

ورواه النسائي أيضا عن محمود بن خالد عن الوليد ولم يقل عن أبيه وهو حديث حسن وعمر بن شعيب الكلام فيه مشهور في الاحتجاج به . [ ص: 453 ]

قوله { من تطبب } ولم يقل من طب لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء ، والدخول فيه بكلفة وإنه ليس من أهله كتكلف وتشجع وتحلم وتصبر ، وظاهر هذا من كلام الأصحاب رحمهم الله أنه لا يجوز أن يستطب من لا يعرف حذقه وإذا لم تحل له المباشرة لا يحل تمكينه مما لا يحل له ، وظاهر كلام الأصحاب وهو ظاهر الخبر أن من لم يعلم منه طب يضمن ، ولو علم من استطبه جهله وأذن له في طبه ; لأنه لا تحل له المباشرة مع جهله ولو أذن له .

وقال بعض أصحابنا في زماننا لا يضمن هذا وما قاله متوجه ولعل مراد الأصحاب غير هذه الصورة ; لأنه وإن لم تحل المباشرة لكن الإذن مع علمه بجهله مانع من الضمان والتحقيق أنها كمسألة من قال لآخر اقتلني أو اجرحني ففعل لا ضمان عليه في الأشهر المنصوص .

وأما الطبيب الحاذق فلا يضمن فإن جنت يده وأخطأت فجنايته خطأ مضمونة وإن وصف دواء فأخطأ في اجتهاده فتلف المريض فيتوجه أنه كالمفتي إذا بان خطؤه في إتلاف إن خالف قاطعا ضمن لا مستفتيه وإلا لم يضمن فيضمن الطبيب عاقلته .

وقال بعض أصحابنا الموجودين في زماننا يتخرج على روايتين نص عليهما في خطأ الإمام والحاكم إحداهما في بيت المال والثانية على العاقلة كذا قال والفرق أنه إنما كان في بيت المال ; لأنه وكيل كسائر الوكلاء ولهذا له على هذه الرواية عزل نفسه ذكره القاضي وغيره ، وهذا بخلاف الطبيب مع أنه قد يقال ظاهر كلامهم لا يضمن الحاذق إلا إذا جنت يده أنه لا ضمان هنا لكن مرادهم أنه إذا كان طبه عملا وقد أخطأ هنا بلسانه بمخالفة قاطع فهو كالمفتي .

وقد قال الخطابي لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف [ ص: 454 ] ضمن الدية ولا قود ; لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض . وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته انتهى كلامه .

والطبيب يتناول لغة من يطب الآدمي والحيوان ويتناول غيرهما أيضا كما يتناول الطبايعي والكحال والجرائحي أنواعه والحاقن والكواء .

والطبيب الحاذق من يراعي نوع المرض وسببه وقوة المريض هل تقاوم المرض فإن مقاومته تركه ومزاج البدل الطبيعي ما هو ؟ والمزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي وسن المريض وبلده وعادته وما يليق بالوقت الحاضر من فصول السنة وحال الهواء وقت المرض والدواء وقوته وقوة المريض وإزالة العلة مع أمن حدوث أصعب منها وإلا تلطف ، والعلاج بالأسهل فالغذاء ثم الدواء البسيط ثم المركب ، وهل العلة مما تزول بالعلاج أو تقل والأحفظ صناعته وحرمته عن علاج لا يفيد ، ولا يستفرغ الخلط قبل نضجه ويراعي أحوال المريض بما يناسبه .

ومن له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها ومن يتلطف بالمريض ويرفق به كالصغير ، ويستعين على المرض بكل معين ويحتمل أدنى المفسدتين ويفوت أدنى المصلحتين .

وينبغي أن يقال طبيب لا حكيم لاستعمال الشارع هنا وفي أول الفصول وقد قال الجوهري الحكيم العالم وصاحب الحكمة ، والحكيم المتقن للأمور ، وقد حكم أي صار حكيما ، ويأتي في علاج السحر الكلام في الطب والطبيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية