الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى وامسحوا برءوسكم وقال ابن المسيب المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها وسئل مالك أيجزئ أن يمسح بعض الرأس فاحتج بحديث عبد الله بن زيد

                                                                                                                                                                                                        183 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلا قال لعبد الله بن زيد وهو جد عمرو بن يحيى أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد نعم فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ثم مضمض واستنثر ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب مسح الرأس كله ) كذا لأكثرهم وسقط لفظ " كله " للمستملي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال ابن المسيب ) أي : سعيد ، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بلفظ " الرجل والمرأة في المسح سواء " ونقل عن أحمد أنه قال : يكفي المرأة مسح مقدم رأسها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وسئل مالك ) السائل له عن ذلك هو إسحاق بن عيسى بن الطباع ، بينه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه : سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه أيجزئه ذلك ؟ فقال : حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عبد الله بن زيد فقال " مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه من ناصيته إلى قفاه ، ثم رد يديه إلى ناصيته فمسح رأسه كله " . وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المصنف قبل ، وموضع الدلالة من الحديث والآية أن لفظ الآية مجمل ; لأنه يحتمل أن يراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة ، أو مسح البعض على أنها تبعيضية ، فتبين بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد الأول ، ولم ينقل عنه أنه مسح [ ص: 348 ] بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته ، فإن ذلك دل على أن التعميم ليس بفرض [1] ، فعلى هذا فالإجمال في المسند إليه لا في الأصل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) أي : أبي عثمان يحيى بن عمارة أي : ابن أبي حسن واسمه تميم بن عبد عمرو ، ولجده أبي حسن صحبة ، وكذا لعمارة فيما جزم به ابن عبد البر . وقال أبو نعيم : فيه نظر . والإسناد كله مدنيون إلا عبد الله بن يوسف وقد دخلها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن رجلا ) هو عمرو بن أبي حسن كما سماه المصنف في الحديث الذي بعد هذا من طريق وهيب عن عمرو بن يحيى ، وعلى هذا فقوله هنا " وهو جد عمرو بن يحيى " فيه تجوز ; لأنه عم أبيه ، وسماه جدا لكونه في منزلته ، ووهم من زعم أن المراد بقوله " وهو " عبد الله بن زيد ; لأنه ليس جدا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازا .

                                                                                                                                                                                                        وأما قول صاحب الكمال ومن تبعه في ترجمة عمرو بن يحيى أنه ابن بنت عبد الله بن زيد فغلط توهمه من هذه الرواية ، وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن البكير ، وقال غيره هي أم النعمان بنت أبي حية فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وقد اختلف رواة الموطأ في تعيين هذا السائل ، وأما أكثرهم فأبهمه ، قال معن بن عيسى في روايته عن عمرو عن أبيه يحيى : إنه سمع أبا حسن - وهو جد عمرو بن يحيى - قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة . . . فذكر الحديث . وقال محمد بن الحسن الشيباني عن مالك : حدثنا عمرو عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد . وكذا ساقه سحنون في المدونة .

                                                                                                                                                                                                        وقال الشافعي في الأم : عن مالك عن عمرو عن أبيه إنه قال لعبد الله بن زيد . ومثله رواية الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي عن مالك عن عمرو عن أبيه قال : قلت . . والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال : اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن ، فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                        ويؤيده رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور قال : حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال : كان عمي يعني عمرو بن أبي حسن يكثر الوضوء ، فقال لعبد الله بن زيد أخبرني . فذكره . وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضرا . وحيث نسب السؤال ليحيى بن عمارة فعلى المجاز أيضا لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد الواسطي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال " قيل له توضأ لنا " فذكره مبهما . وفي رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد المذكور بلفظ " قلنا له " ، وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله ; لكن متولي السؤال منهم عمرو بن أبي حسن .

                                                                                                                                                                                                        ويزيد ذلك وضوحا رواية الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عمه عمرو بن أبي حسن قال " كنت كثير الوضوء ، فقلت لعبد الله بن زيد " فذكر الحديث . أخرجه أبو نعيم في المستخرج ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 349 ] قوله : ( أتستطيع ) فيه ملاطفة الطالب للشيخ ، وكأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم ، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فدعا بماء ) وفي رواية وهب في الباب الذي بعده " فدعا بتور من ماء " . والتور بمثناة مفتوحة قال الداودي : قدح . وقال الجوهري : إناء يشرب منه . وقيل هو الطست ، وقيل يشبه الطست ، وقيل هو مثل القدر يكون من صفر أو حجارة . وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة عند المصنف في باب الغسل في المخضب في أول هذا الحديث " أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تور من صفر " والصفر بضم المهملة وإسكان الفاء وقد تكسر صنف من حديد النحاس ، قيل : إنه سمي بذلك لكونه يشبه الذهب ، ويسمى أيضا الشبه بفتح المعجمة والموحدة . والتور المذكور يحتمل أن يكون هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد إذ سئل عن صفة الوضوء فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأفرغ ) وفي رواية موسى عن وهيب " فأكفأ " بهمزتين ، وفي رواية سليمان بن حرب في باب مسح الرأس مرة عن وهيب " فكفأ " بفتح الكاف ، وهما لغتان بمعنى يقال كفأ الإناء وأكفأ إذا أماله ، وقال الكسائي كفأت الإناء كببته وأكفأته أملته ، والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرح به في رواية مالك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فغسل يده مرتين ) كذا في رواية مالك بإفراد يده ، وفي رواية وهيب وسليمان بن بلال عند المصنف وكذا للدراوردي عند أبي نعيم " فغسل يديه " بالتثنية ، فيحمل الإفراد في رواية مالك على الجنس ، وعند مالك " مرتين " ، وعند هؤلاء " ثلاثا " ، وكذا لخالد بن عبد الله عند مسلم ، وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد ، وقد ذكر مسلم من طريق بهز عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو بن يحيى إملاء ، فتأكد ترجيح روايته ، ولا يقال يحمل على واقعتين لأنا نقول : المخرج متحد والأصل عدم التعدد .

                                                                                                                                                                                                        وفيه من الأحكام غسل اليد قبل إدخالها الإناء ولو كان من غير نوم كما تقدم مثله في حديث عثمان ، والمراد باليدين هنا الكفان لا غير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم تمضمض واستنثر ) ، وللكشميهني " مضمض واستنشق " والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس ، وقد ذكر في رواية وهيب الثلاثة وزاد بعد قوله ثلاثا " بثلاث غرفات " ; واستدل به على استحباب الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة ، وفي رواية خالد بن عبد الله الآتية بعد قليل " مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا " وهو صريح في الجمع كل مرة ، بخلاف رواية وهيب فإنه تطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية كما نبه عليه ابن دقيق العيد .

                                                                                                                                                                                                        ووقع في رواية سليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التور " فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة " واستدل بها على الجمع بغرفة واحدة ، وفيه نظر لما أشرنا إليه من اتحاد المخرج فتقدم الزيادة ، ولمسلم من رواية خالد المذكورة " ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض " فاستدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق لكونه عطفا بالفاء التعقيبية وفيه بحث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم غسل وجهه ثلاثا ) لم تختلف الروايات في ذلك ، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب [ ص: 350 ] تعميم الرأس بالمسح أن يستدل به على وجوب الترتيب للإتيان بقوله " ثم " في الجميع ; لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم غسل يديه مرتين مرتين ) كذا بتكرار مرتين ، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين ، لكن في رواية مسلم من طريق حبان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ وفيه : " ويده اليمنى ثلاثا ثم الأخرى ثلاثا " فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى المرفقين ) كذا للأكثر وللمستملي والحموي إلى المرفقين بالإفراد على إرادة الجنس ، وقد اختلف العلماء : هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا ؟ فقال المعظم : نعم ، وخالف زفر ، وحكاه بعضهم عن مالك ، واحتج بعضهم للجمهور بأن " إلى " في الآية بمعنى " مع " كقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، وتعقب بأنه خلاف الظاهر ، وأجيب بأن القرينة دلت عليه وهي كون ما بعد " إلى " من جنس ما قبلها . وقالابن القصار : اليد يتناولها الاسم إلى الإبط لحديث عمار " أنه تيمم إلى الإبط " وهو من أهل اللغة ، فلما جاء قوله تعالى إلى المرافق بقي المرفق مغسولا مع الذراعين بحق الاسم ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                        فعلى هذا فإلى هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول ، وفي كون ذلك ظاهرا من السياق نظر ، والله أعلم . وقال الزمخشري : لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل ، فقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل دليل عدم دخول النهي عن الوصال ، وقول القائل حفظت القرآن من أوله إلى آخره دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن ، وقوله تعالى إلى المرافق لا دليل فيه على أحد الأمرين ، قال : فأخذ العلماء بالاحتياط ووقف زفر مع المتيقن ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                        ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله - صلى الله عليه وسلم - ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء " فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين " وفيه عن جابر قال " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " لكن إسناده ضعيف [2] وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء " وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق " وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا " ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه " فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا . قال إسحاق بن راهويه : " إلى " في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وأن تكون بمعنى مع ، فبينت السنة أنها بمعنى مع ، انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وقد قال الشافعي في الأم : لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء ، فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده ، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا . والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء هو العظم الناتئ في آخر الذراع سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم مسح رأسه ) زاد ابن الطباع " كله " كما تقدم عن رواية ابن خزيمة ، وفي رواية خالد بن عبد الله برأسه بزيادة الباء . قال القرطبي : الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك مسحت رأس اليتيم [ ص: 351 ] ومسحت برأسه . وقيل دخلت الباء لتفيد معنى آخر وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به ، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به ، فلو قال وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء ، فكأنه قال وامسحوا برءوسكم الماء فهو على القلب ، والتقدير امسحوا رءوسكم بالماء . وقال الشافعي : احتمل قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم جميع الرأس أو بعضه ، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ . والفرق بينه وبين قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم في التيمم أن المسح فيه بدل عن الغسل ومسح الرأس أصل فافترقا ، ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجل لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع . فإن قيل : فلعله اقتصر على مسح الناصية لعذر - لأنه كان في سفر وهو مظنة العذر ، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة بن شعبة - قلنا : قد روي عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة ولا تعرض لسفر ، وهو ما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه ، وهو مرسل لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس . وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله ، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر ، وحصلت القوة من الصورة المجموعة ، وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند ، وظهر بهذا جواب من أورد أن الحجة حينئذ بالمسند فيقع المرسل لغوا ، وقد قررت جواب ذلك فيما كتبته على علوم الحديث لابن الصلاح .

                                                                                                                                                                                                        وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال " ومسح مقدم رأسه " أخرجه سعيد بن منصور ، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه . وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس ، قاله ابن المنذر وغيره ، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك ، قاله ابن حزم . وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بدأ بمقدم رأسه ) الظاهر أنه من الحديث وليس مدرجا من كلام مالك ، ففيه حجة على من قال : السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه لظاهر قوله " أقبل وأدبر " . ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب ، وسيأتي عند المصنف قريبا من رواية سليمان بن بلال " فأدبر بيديه وأقبل " فلم يكن في ظاهره حجة لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية ، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه ، ومخرج الطريقين متحد ، فهما بمعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                        وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم فيحمل قوله " أقبل " على أنه من تسمية الفعل بابتدائه ، أي : بدأ بقبل الرأس ، وقيل في توجيهه غير ذلك . والحكمة في هذا الإقبال والإدبار استيعاب جهتي الرأس بالمسح ، فعلى هذا يختص ذلك بمن له شعر ، والمشهور عمن أوجب التعميم أن الأولى واجبة والثانية سنة ، ومن هنا يتبين ضعف الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التعميم ، والله أعلم

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم غسل رجليه ) زاد في رواية وهيب الآتية " إلى الكعبين " والبحث فيه كالبحث في قوله إلى المرفقين ، والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم ، وحكى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك ، وروي عن ابن القاسم عن مالك مثله ، والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة ، وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك ، ومن أوضح الأدلة فيه حديث النعمان بن بشير الصحيح في صفة الصف في الصلاة " فرأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه " وقيل إن محمدا إنما رأى ذلك في حديث قطع المحرم الخفين إلى الكعبين إذا لم يجد النعلين .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذا الحديث [ ص: 352 ] من الفوائد الإفراغ على اليدين معا في ابتداء الوضوء ، وأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث ، وفيه مجيء الإمام إلى بيت بعض رعيته وابتداؤهم إياه بما يظنون أن له به حاجة ، وجواز الاستعانة في إحضار الماء من غير كراهة ، والتعليم بالفعل ، وأن الاغتراف من الماء القليل للتطهر لا يصير الماء مستعملا لقوله في رواية وهيب وغيره " ثم أدخل يده فغسل وجهه . . . إلخ " ، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها ، واستدل به أبو عوانة في صحيحه على جواز التطهر بالماء المستعمل ، وتوجيهه أن النية لم تذكر فيه ، وقد أدخل يده للاغتراف بعد غسل الوجه وهو وقت غسلها ، وقال الغزالي : مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا لأن الاستعمال إنما يقع من المغترف منه ، وبهذا قطع البغوي .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به المصنف على استيعاب مسح الرأس ، وقد قدمنا أنه يدل لذلك ندبا لا فرضا ، وعلى أنه لا يندب تكريره كما سيأتي في باب مفرد ، وعلى الجمع بين المضمضة والاستنشاق من غرفة كما سيأتي أيضا ، وعلى جواز التطهر من آنية النحاس وغيره .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية