الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 225 ] قال ( وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف ) قال رضي الله عنه : ذكر فصلين شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه . أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف ، ولا يجوز على قياس قول محمد وهو قول هلال الرازي وبه قال الشافعي . وقيل إن الاختلاف بينهما بناء على الاختلاف في اشتراط القبض والإفراز . وقيل هي مسألة مبتدأة ، والخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء ، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء سواء ; ولو وقف وشرط البعض أو الكل لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا فهو للفقراء والمساكين ، فقد قيل يجوز بالاتفاق ، وقد قيل هو على الخلاف أيضا وهو الصحيح لأن اشتراطه لهم في حياته كاشتراطه لنفسه . [ ص: 226 ] وجه قول محمد رحمه الله أن الوقف تبرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه ، فاشتراطه البعض أو الكل لنفسه يبطله ; لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة ، وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه .

ولأبي يوسف ما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته } والمراد منها صدقته الموقوفة ، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط ، فدل على صحته ، ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه ، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه ، فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أنه يجعل ملك نفسه لنفسه ، وهذا جائز ، [ ص: 227 ] كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة ، وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه ، ولأن مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك ، قال عليه الصلاة والسلام { نفقة الرجل على نفسه صدقة } .

التالي السابق


( قوله وإذا جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه جاز عند أبي يوسف ) فهذان فصلان ذكرهما القدوري ( شرط الغلة لنفسه وجعل الولاية إليه . أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف )

وهو قول أحمد وابن أبي ليلى وابن شبرمة والزهري . ومن أصحاب الشافعي ابن سريج ( ولا يجوز على قياس قول محمد وهلال ) الرأيي وهو هلال بن يحيى بن مسلم البصري ، وإنما نسب إلى الرأي : أي لأنه كان على مذهب الكوفيين ورأيهم ، وهو من أصحاب يوسف بن خالد السمتي البصري ، ويوسف هذا من أصحاب أبي حنيفة . وقيل إن هلالا أخذ العلم عن أبي يوسف وزفر . ووقع في المبسوط والذخيرة وغيرهما الرازي . وفي المغرب هو تحريف ، بل هو الرأيي بتشديد الراء المهملة لأنه من البصرة لا من الري . والرازي نسبة إلى الري ، وهكذا صحح في مسند أبي حنيفة وغيره ، وبقول محمد قال الشافعي ومالك ، والخلاف في شرط كل الغلة لنفسه وبعده على الفقراء أو بعضها وبعده للفقراء .

ثم ( قيل إن الاختلاف بينهما بناء على الخلاف في اشتراط القبض ) أي قبض المتولي ، فلما شرطه محمد منع اشتراط الغلة لنفسه ; لأنه حينئذ لا ينقطع حقه فيه ، وما شرط القبض إلا لينقطع حقه ، ولما لم يشرطه أبو يوسف لم يمنعه ( وقيل مسألة مبتدأة ) غير مبنية وهو أوجه ، ثم وصل المصنف [ ص: 226 ] بهذه الخلافية ما إذا شرط الغلة لأمهات أولاده ومدبريه ما داموا أحياء ، فإذا ماتوا كان للفقراء بناء على جعل الخلاف المعلوم جاريا فيها على ما صححه المصنف . وقيل بل صحة شرط الغلة لأمهات أولاده ومدبريه بالاتفاق وهو الأصح . وما قال المصنف مخالف لما في المبسوط والمحيط والذخيرة والتتمة وفتاوى قاضي خان ، فإن الكل جعلوا الصحة بالاتفاق .

وفرق في المبسوط لمحمد رحمه الله بين شرط الغلة لنفسه حيث لا يجوز ولأمهات أولاده حيث يجوز مع أن شرطه لهن ولمدبريه كشرط لنفسه بأن حريتهم ثبتت بموته فيكون الوقف عليهم كالوقف على الأجانب ، ويكون ثبوته لهم حالة حياته تبعا لما بعد موته ، كما قال أبو حنيفة في أصل الوقف إذا قال في حياتي وبعد وفاتي يلزم ، أما لو وقف على عبيده وإمائه فلا يجوز عند محمد لأنهم لا يعتقون بموته فلا تبعية ، ويجوز عند أبي يوسف كشرطه لنفسه ( وجه قول محمد رحمه الله إن الوقف تبرع على وجه التمليك ) للغلة أو للسكنى ( فاشتراط البعض أو الكل لنفسه يبطله ; لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة ) بأن تصدق على فقير بمال وسلم إليه على أن يكون بعضه لي لم يجز لعدم الفائدة ، إذ لم يكن مملكا على هذا التقدير إلا ما وراء ذلك القدر ، فكذا في الصدقة الموقوفة ( وكشرط بعض بقعة المسجد لنفسه ) بيتا ( ولأبي يوسف ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من صدقته } والمراد صدقته الموقوفة ، ولا يحل الأكل منها إلا بالشرط ) فإن الإجماع على أن الواقف إذا لم يشرط لنفسه الأكل منها لا يحل له أن يأكل منها ، وإنما الخلاف فيما إذا شرطه ، والحديث المذكور بهذا اللفظ لم يعرف إلا أن في مصنف ابن أبي شيبة : حدثنا ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه { قال : ألم تر أن حجرا المدري أخبرني قال : إن في صدقة النبي صلى الله عليه وسلم يأكل منها أهلها بالمعروف غير المنكر } .

( ولأن الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكا لله لنفسه لا أنه جعل ملك نفسه لنفسه ) [ ص: 227 ] كذا قرره المصنف ، وعلى ما سلف لنا في اشتراط التسليم إلى المتولي عند محمد ينبغي أن يقرر هكذا الموقوف إزالة الملك الكائن بالعين وإسقاطه لا إلى مالك ابتغاء مرضاة الله تعالى على وجه يعتبر فيه شرطه الغير المنافي للقربة والشرع ، وشرط النفقة على نفسه منه لا ينافي ذلك ( كما إذا بنى خانا وشرط أن ينزل فيه أو سقاية وشرط أن يشرب منها أو مقبرة وشرط أن يدفن فيها ، قال صلى الله عليه وسلم { نفقة الرجل على نفسه صدقة } ) روي معنى هذا الحديث من طرق كثيرة يبلغ بها الشهرة ، فروى ابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب عنه عليه الصلاة والسلام قال { ما من كسب الرجل كسب أطيب من عمل يده ، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة } وأخرجه النسائي عن بقية عن بجير بلفظ : { ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة } الحديث .

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أيما رجل كسب مالا حلالا فأطعمه نفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله تعالى فإن له زكاة } ورواه الحاكم إلا أنه قال { فإنه له زكاة } وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وأخرج الحاكم أيضا والدارقطني عن جابر قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة ، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة ، وما وقى به عرضه صدقة } الحديث . وفيه فقلت لمحمد بن المنكدر : ما معنى وقى به عرضه قال : أن يعطي الشاعر وذا اللسان المتقى . وقال صحيح الإسناد وأخرج الطبراني عن أبي أمامة عنه عليه الصلاة والسلام قال { من أنفق على نفسه فهي له صدقة ، ومن أنفق على امرأته وأهله وولده فهو له صدقة } وفي صحيح مسلم عن جابر { أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك } الحديث ، فقد ترجح قول أبي يوسف . قال الصدر الشهيد : والفتوى على قول أبي يوسف ، ونحن أيضا نفتي بقوله ترغيبا للناس في الوقف ، واختاره مشايخ بلخ ، وكذا ظاهر الهداية حيث أخر وجهه ولم يدفعه .

ومن صور الاشتراط لنفسه ما لو قال على أن يقضي دينه من غلته ، وكذا إذا قال إذا حدث علي الموت وعلي دين يبدأ من غلة هذا الوقف بقضاء ما علي فما فضل فعلى سبيله كل ذلك جائز . وفي وقف الخصاف إذا شرط أن ينفق على نفسه وولده وحشمه وعياله من غلة هذا الوقف فجاءت غلته فباعها وقبض ثمنها ، ثم مات قبل أن ينفق ذلك هل يكون ذلك لورثته أو لأهل الوقف ؟ قال : يكون لورثته ; لأنه قد حصل ذلك وكان له فقد عرف أن شرط بعض الغلة لا يلزم كونه بعضا معينا كالنصف والربع ، وكذلك إذا قال : إذا حدث على فلان الموت : يعني الواقف نفسه أخرج من غلة هذا الوقف في كل سنة من عشرة أسهم مثلا سهم يجعل في الحج عنه أو في كفارات أيمانه ، وفي كذا وكذا وسمى أشياء ، أو قال أخرج من هذه الصدقة في كل سنة كذا وكذا درهما لتصرف في هذه الوجوه ويصرف الباقي في كذا وكذا على ما سبله




الخدمات العلمية