الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( 74 ) )

يقول تعالى ذكره : والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ما تقر به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) يعنون : من يعمل لك بالطاعة فتقر بهم أعيننا في الدنيا والآخرة .

حدثني أحمد بن المقدام ، قال : ثنا حزم ، قال : سمعت كثيرا سأل الحسن ، قال : يا أبا سعيد ، قول الله : ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) في الدنيا والآخرة ؟ قال : لا بل في الدنيا ، قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله .

حدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : ثنا سالم بن قتيبة ، قال : ثنا حزم ، قال : سمعت الحسن فذكر نحوه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قرأ حضرمي ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) قال : وإنما قرة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج فيما قرأنا عليه في قوله : ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ، [ ص: 319 ] ولا يجرون الجرائر .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) قال : يعبدونك يحسنون عبادتك ، ولا يجرون علينا الجرائر .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) قال : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام .

حدثنا محمد بن عون ، قال : ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود ، فقال : لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشد حالة بعث عليها نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل ، وفرق بين الوالد وولده ، حتى إن كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا ، وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام ، فيعلم أنه إن مات دخل النار ، فلا تقر عينه ، وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها للتي قال الله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) . . . الآية .

حدثني ابن عوف ، قال : ثني علي بن الحسن العسقلاني ، عن عبد الله بن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن المقداد ، نحوه .

وقيل : هب لنا قرة أعين ، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع ، وقوله : ( قرة أعين ) واحدة لأن قوله : " قرة أعين " مصدر من قول القائل : قرت عينك قرة ، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه .

وقوله : ( واجعلنا للمتقين إماما ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : اجعلنا أئمة يقتدي بنا من بعدنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عون بن سلام ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : ( واجعلنا للمتقين إماما ) يقول : أئمة يقتدى بنا .

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( واجعلنا للمتقين إماما ) أئمة التقوى ولأهله يقتدى بنا . قال ابن زيد : كما قال لإبراهيم : ( إني جاعلك للناس إماما ) . [ ص: 320 ]

وقال آخرون : بل معناه : واجعلنا للمتقين إماما : نأتم بهم ، ويأتم بنا من بعدنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثني ابن بشار ، قال : ثنا مؤمل ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( واجعلنا للمتقين إماما ) أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ونكون أئمة لمن بعدنا .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( واجعلنا للمتقين إماما ) قال : اجعلنا مؤتمين بهم ، مقتدين بهم .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات ، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما ، وقال : ( واجعلنا للمتقين إماما ) ولم يقل أئمة . وقد قالوا : واجعلنا وهم جماعة ، لأن الإمام مصدر من قول القائل : أم فلان فلانا إماما ، كما يقال : قام فلان قياما وصام يوم كذا صياما . ومن جمع الإمام أئمة ، جعل الإمام اسما ، كما يقال : أصحاب محمد إمام ، وأئمة للناس . فمن وحد قال : يأتم بهم الناس . وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويي أهل الكوفة . وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية : الإمام في قوله : ( للمتقين إماما ) جماعة ، كما تقول : كلهم عدول . قال : ويكون على الحكاية كما يقول القائل : إذا قيل له : من أميركم ، هؤلاء أميرنا ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :


يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير

[ ص: 321 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية