الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ادعى على آخر أنه وطئ أمته وحبلت فنقصت ، فإن برهن فله قيمة النقصان ، [ ص: 81 ] وإن حلف خصمه فله تعزير المدعي منية . وفي الأشباه : خدع امرأة إنسان وأخرجها زوجها ويحبس حتى يتوب أو يموت لسعيه في الأرض بالفساد . من له دعوى على آخر فلم يجده فأمسك أهله للظلمة فحبسوهم وغرموهم عزر . يعزر على الورع البارد كتعريف نحو تمرة . التعزير لا يسقط بالتوبة كالحد . قال : واستثنى الشافعي ذوي الهيئات قلت : قد قدمناه لأصحابنا عن القنية وغيرها . وزاد الناطفي في أجناسه ما لم يتكرر فيضرب التعزير ، وفي الحديث " { تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة لا في الحد } " . وفي شرح الجامع الصغير للمناوي الشافعي في حديث " { اتق الله ، لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك [ ص: 82 ] له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة لها ثؤاج } " قال يؤخذ منه تجريس السارق ونحوه فليحفظ ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( قوله فله قيمة النقصان ) أي له قدر ما نقص من قيمتها . ولم يذكر أنه يحد أو لا لعلمه مما مر في بابه ، وتقدم قبيل باب الشهادة [ ص: 81 ] على الزنا ما لو زنى بأمة فقتلها أنه يجب الحد والقيمة بالقتل ، وفي إفضائها تفصيل طويل ( قوله وإن حلف خصمه ) أي عند عدم البرهان ( قوله حتى يتوب أو يموت ) عبارة غيره حتى يردها .

وفي الهندية وغيرها قال محمد أحبسه أبدا حتى يردها أو يموت ( قوله يعزر على الورع البارد إلخ ) قال في التتارخانية : روي أن رجلا وجد تمرة ملقاة فأخذها وعرفها مرارا ومراده إظهار ورعه وديانته ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : كلها يا بارد الورع فإنه ورع يبغضه الله تعالى وضربه بالدرة . ا هـ .

قلت : وبه علم أن المراد ما كان على وجه الرياء كما أفاده بقوله البارد فافهم ، فلو كان من أهل الورع فهو ممدوح كما نقل أن امرأة سألت بعض الأئمة عن الغزل على ضوء العسس حين يمر على بيتها فقال من أنت ؟ فقالت : أنا أخت بشر الحافي ، فقال لها : لا تفعلي ، فإن الورع خرج من بيتكم ( قوله التعزير لا يسقط بالتوبة ) لما مر أن الذمي إذا لزمه التعزير فأسلم لم يسقط عنه ، لكن هذا مقيد بما إذا كان حقا لعبد ، أما ما وجب حقا لله تعالى فإنه يسقط كما في شهادات البحر حموي على الأشباه ( قوله قلت قد قدمناه لأصحابنا إلخ ) تقدم ذلك عند قوله والشهادة على الشهادة ، وهذا جواب لقول الأشباه ولم أره لأصحابنا . ا هـ . قلت : وفي كفالة كافي الحاكم الشهيد : وإذا كان المدعى عليه رجلا له مروءة وخطر استحسنت أن لا أحبسه ولا أعزره إذا كان ذلك أول ما فعل . وذكر عن الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " { تجافوا عن عقوبة ذي المروءة إلا في الحدود } " ا هـ وقال البيري : وفي الأجناس عن كفالة الأصل : لو ادعى قبل إنسان شتيمة فاحشة أو أنه ضربه عزر أسواطا وإن كان المدعى عليه رجلا له مروءة وخطر استحسنت أنه لا يعزر إذا كان أول ما فعل . وفي نوادر ابن رستم عن محمد وعظ حتى لا يعود إليه ، فإن عاد وتكرر منه ضرب التعزير . قلت لمحمد : والمروءة عندك في الدين والصلاح ؟ قال نعم . وفي التمرتاشي : إن كان له خطر ومروءة فالقياس أن يعزر . وفي الاستحسان لا إن كان أول ما فعل ، فإن فعل أي مرة أخرى علم أنه لم يكن ذا مروءة ، والمروءة مروءة شرعية وعقلية رسمية ا هـ ملخصا .

[ تنبيه ] قال ابن حجر في الفتاوى الفقهية : جاء الحديث من طرق كثيرة من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ، منها " { أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود } " وفسرهم الشافعي بأنهم الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيترك .

وقيل هم أصحاب الصغائر دون الكبائر . وقيل الذين إذا وقع منهم الذنب تابوا ، والأول أظهر وأمتن ا هـ ملخصا . قلت : وقول أئمتنا إذا كان أول ما فعل يشير إلى التفسير الأول ، وكذا ما مر من تفسير المروءة ( قوله في حديث { اتق الله لا تأتي } إلخ ) لفظ الجامع الصغير " { اتق الله يا أبا الوليد } " وقوله لا تأتي أصله لئلا تأتي فحذف اللام كذا في المناوي ح . [ ص: 82 ] قلت : ومقتضاه أن تأتي منصوب بأن المضمرة بعد اللام المقدرة مع أن شرط إضمار أن عدم وجود لا بعدها مثل - { لنعلم أي الحزبين } - فلو وجدت امتنع الإضمار مثل - { لئلا يعلم } - إلا أن يقال سوغ ذلك عدم التصريح باللام التعليلية ، لكنه يتوقف على كون الرواية بالنصب وإلا فالأظهر أنه نفي بمعنى النهي مثل - { فلا رفث ولا فسوق } - أو نهي والياء للإشباع ; وعلى كل فهو نهي عن المسبب ، والمراد النهي عن السبب مثل - { ولا تقتلوا أنفسكم } - { لا يفتننكم الشيطان } - أي لا تفعلوا سبب القتل والفتنة ، وهنا المراد النهي عن منع زكاة المواشي أو السرقة التي هي سبب الإتيان بما ذكر . وعلى هذا التقرير يظهر في الحديث نكات لطيفة لا تخفى على المتأمل فافهم ( قوله له رغاء إلخ ) الرغاء صوت الإبل ، كما أن الخوار صوت البقر . والثؤاج بالثاء المثلثة المضمومة وبعدها همزة مفتوحة ممدودة ثم جيم : صوت الغنم ط ( قوله قال يؤخذ منه ) عبارة المناوي قال ابن المنير : أظن أن الحكام أخذوا بتجريس السارق ونحوه من هذا الحديث ونحوه . ا هـ . ح . والتجريس بالقوم : التسميع بهم قاموس . قلت : وهو معنى التشهير الذي ذكروه عندنا في شاهد الزور . ففي التتارخانية قال أبو حنيفة في المشهور : يطاف به ويشهر ، ولا يضرب . وفي السراجية : وعليه الفتوى . وفي جامع العتابي التشهير أن يطاف به في البلد وينادى عليه في كل محلة إن هذا شاهد الزور فلا تشهدوه .

وذكر الخصاف في كتابه أنه يشهر على قولهما بغير الضرب . والذي روي عن عمر أنه يسخم وجهه ، فتأويله عند السرخسي أنه بطريق السياسة إذا رأى المصلحة . وعند الشيخ الإمام أنه التفضيح والتشهير فإنه يسمى سوادا ا هـ ملخصا وسيأتي تمامه قبيل باب الرجوع عن الشهادة إن شاء الله تعالى ، والله سبحانه أعلم

.



الخدمات العلمية