الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما شرائط جواز البناء .

                                                                                                                                فمنها الحدث السابق فلا يجوز البناء في الحدث العمد ; لأن جواز البناء ثبت معدولا به عن القياس بالنص والإجماع ، وكل ما كان في معنى المنصوص والمجمع عليه يلحق به وإلا فلا ، والحدث العمد ليس في معنى الحدث السابق ; لوجهين : أحدهما أن الحدث السابق مما يبتلى به الإنسان فلو جعل مانعا من البناء لأدى إلى الحرج ولا حرج في الحدث العمد ; لأنه لا يكثر وجوده ، والثاني الإنسان يحتاج إلى البناء في الجمع والأعياد لإحراز الفضيلة المتعلقة بهما وكذا يحتاج إلى إحراز فضيلة الصلاة خلف أفضل القوم خصوصا من كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلو لم يجز البناء وربما فرغ الإمام من الصلاة قبل فراغه من الوضوء لفات عليه فضيلة الجمعة والعيدين وفضيلة الصلاة خلف الأفضل على وجه لا يمكنه [ ص: 221 ] التلاقي فالشرع نظر له بجواز البناء صيانة لهذه الفضيلة عليه من الفوت وهو مستحق للنظر لحصول الحدث من غير قصده واختياره بخلاف الحدث العمد ; لأن متعمد الحدث في الصلاة جان فلا يستحق النظر ، وعلى هذا يخرج ما إذا كان به دمل فعصره حتى سال ، أو كان في موضع ركبته فانتفخ من اعتماده على ركبته في سجوده لا يجوز له البناء ; لأن هذا بمنزلة الحدث العمد ، وكذا إذا تكلم في الصلاة عامدا أو ناسيا أو عمل فيها ما ليس من أعمال الصلاة وهو كثير لا يجوز له البناء ; لأن كل ذلك نادر في الصلاة فلم يكن في معنى المنصوص والمجمع عليه ، وكذا إذا جن في الصلاة أو أغمي عليه ثم أفاق لا يبني وإن كان ذلك في معنى الحدث السابق ; لأنه لا صنع له فيهما ; لأن اعتراضهما في الصلاة نادر فلم يكونا في معنى ما ورد فيه النص والإجماع ، وكذا لو انتضح البول على بدن المصلي أو ثوبه أكثر من قدر الدرهم من موضع فانفتل فغسله لا يبني على صلاته في ظاهر الرواية ، وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول أنه يبني .

                                                                                                                                وجه هذه الرواية أن النجاسة وصلت إلى بدنه من غير قصد فكان معنى الحدث السابق ولأن هذا بعض ما ورد فيه الخبر ; لأنه لو رعف فأصاب بدنه أو ثوبه نجاسة فإنه يتوضأ ويغسل تلك النجاسة وههنا لا يحتاج إلى غسل النجاسة لا غير ، فلما جاز البناء هناك فلأن يجوز هنا أولى

                                                                                                                                وجه ظاهر الرواية أن هذا النوع مما لا يغلب وجوده فلم يكن في معنى مورد النص والإجماع ; ولأن له بدا من غسل النجاسة عن الثوب في الجملة بأن يكون عليه ثوبان فيلقي ما تنجس من ساعته ويصلي في الآخر بخلاف الوضوء فإنه أمر لا بد منه .

                                                                                                                                ولو انتضح البول على ثوب المصلي فإن كان أكثر من قدر الدرهم من موضع فإن كان عليه ثوبان ألقى النجس من ساعته ومضى على صلاته استحسانا ، والقياس أن يستقبل لوجود شيء من الصلاة مع النجاسة لكنا نقول : إن هذا مما لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا وإن أدى ركنا أو مكث بقدر ما يتمكن من أداء ركن يستقبل قياسا واستحسانا ، وإن لم يكن عليه إلا ثوب واحد فانصرف وغسله لا يبني في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                ولو أصابته بندقة فشجته أو رماه إنسان بحجر فشجه أو مس رجل قرحه فأدماه أو عصره فانفلت منه ريح أو حدث آخر لا يجوز له البناء في قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : يبني واحتج بما روي أن عمر رضي الله عنه لما طعن في المحراب استخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .

                                                                                                                                ولو فسدت صلاته لفسدت صلاة القوم ولم يستخلف ; لأن هذا حدث حصل بغير صنعه فكان كالحدث السماوي ، ولأن الشاج لم يوجد منه إلا فتح باب الدم فبعد ذلك خروج الدم بنفسه لا بتسييل أحد فأشبه الرعاف .

                                                                                                                                وجه قولهما أن هذا الحدث حصل بصنع العباد بخلاف الحدث السماوي ، وكذا هذا النوع من الحدث في الصلاة مما يندر وقوعه ; لأن الرامي منهي عن الرمي فلا يقصده غالبا والإصابة خطأ نادر ; لأنه يتحرز خوفا من الضمان فلم يكن في معنى مورد النص والإجماع فيعمل فيه بالقياس المحض ألا ترى أن من عجز عن القيام بسبب المرض جاز له أداء الصلاة قاعدا ؟ ولو عجز عن القيام بفعل البشر بأن قيده إنسان لم يجز لغلبة الأول وندرة الثاني كذا هذا .

                                                                                                                                وأما قوله إن هذا فتح باب الدم فنقول : نعم ولكن من فتح باب المائع حتى سال المائع جعل ذلك مضافا إلى الفاتح ; لانعدام اختيار السائل في سيلانه ولهذا يجب ضمان الدهن على شاق الزق إذا سال الدهن والله أعلم .

                                                                                                                                ولو سقط المدر من السقف من غير مشي أحد على السطح على المصلي أو سقط الثمر من الشجر على المصلي أو أصابه حشيش المسجد فأدماه اختلف المشايخ فيه ، منهم من جوز له البناء بالإجماع لانقطاع ذلك عن فعل العباد ، ومنهم من جعل المسألة على الخلاف لوقوع ذلك في حد القلة .

                                                                                                                                وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد قيل كان الاستخلاف قبل افتتاح الصلاة فاستخلفه ليفتتح الصلاة ألا ترى أنه روي أنه رضي الله عنه لما طعن قال آه قتلني الكلب من يصلي بالناس ، ثم قال : تقدم يا عبد الرحمن ومعلوم أن هذا كلام يمنع البناء على الصلاة ، ومنها حقيقة الحدث لا وهم الحدث ولا ما جعل حدثا حكما حتى لو علم أنه لم يسبقه الحدث لكنه خاف أن يبتدره فانصرف قبل أن يسبقه الحدث ثم سبقه لا يجوز له البناء في ظاهر الرواية ، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز .

                                                                                                                                وجه قوله أنه عجز عن المضي فصار كما لو سبقه الحدث ثم انصرف .

                                                                                                                                وجه ظاهر الرواية أنه صرف وجهه عن القبلة من غير عذر فلم يكن في معنى مورد النص والإجماع فبقي على أصل القياس .

                                                                                                                                وكذا إذا جن في الصلاة أو أغمي عليه أو نام مضطجعا [ ص: 222 ] لا يجوز له البناء ; لأن هذه العوارض يندر وقوعها في الصلاة فلم تكن في معنى مورد النص والإجماع .

                                                                                                                                وكذا المتيمم إذا وجد الماء في خلال الصلاة ، وصاحب الجرح السائل إذا جرح وقت صلاته ، والماسح على الخف إذا انقضت مدة مسحه ونحو ذلك لا يجوز له البناء ; لأن في هذه المواضع يظهر أن الشروع في الصلاة لم يصح على ما ذكرنا ولأنه ليس في معنى الحدث السابق في كثرة الوقوع فتعذر الإلحاق ، وكذا لو اعترضت هذه الأشياء بعد ما قعد قدر التشهد الأخير يوجب فساد الصلاة ويمنع البناء عند أبي حنيفة خلافا لهما على ما ذكرنا في المسائل الاثني عشرية ، ومنها الحدث الصغير حتى لا يجوز البناء في الحدث الكبير وهو الجنابة بأن نام في الصلاة فاحتلم أو نظر إلى امرأة بشهوة أو تفكر فأنزل ; لما قلنا ; ولأن الوضوء عمل يسير والاغتسال عمل كثير فتعذر الإلحاق في موضع العفو ; ولأن الاغتسال لا يمكن إلا بكشف العورة وذلك من قواطع الصلاة وهذا استحسان ، والقياس يجوز يريد به القياس على الاستحسان الأول ، ومنها أن لا يفعل بعد الحدث فعلا منافيا للصلاة لو لم يكن أحدث إلا ما لا بد للبناء منه أو كان من ضرورات ما لا بد منه أو من توابعه وتتماته ، وبيان ذلك إذا سبقه الحدث ثم تكلم أو أحدث متعمدا أو ضحك متعمدا أو قهقه أو أكل أو شرب أو نحو ذلك لا يجوز له البناء ; لأن هذه الأفعال منافية للصلاة في الأصل لما نذكر فلا يسقط اعتبار المنافي إلا لضرورة ولا ضرورة ; لأن البناء منها بدا ، وكذا إذا جن أو أغمي عليه أو أجنب ; لأنه لا يكثر وقوعه فكان للبناء منه بد ، وكذا لو أدى ركنا من أركان الصلاة مع الحدث أو مكث بقدر ما يتمكن فيه من أداء ركن ; لأنه عمل كثير وليس من أعمال الصلاة وله منه بد .

                                                                                                                                وكذا لو استقى من البئر وهو لا يحتاج إليه ولو مشى إلى الوضوء فاغترف الماء من الإناء أو استقى من البئر وهو محتاج إليه فتوضأ جاز له البناء ; لأن الوضوء أمر لا بد للبناء منه والمشي والاغتراف والاستقاء عند الحاجة من ضرورات الوضوء ولو استنجى فإن كان مكشوف العورة بطل البناء ; لأن كشف العورة مناف للصلاة وللبناء منه بد في الجملة ، فإن استنجى تحت ثيابه بحيث لا تنكشف عورته جاز له البناء ; لأن الاستنجاء على هذا الوجه من سنن الوضوء فكان من تتماته .

                                                                                                                                ولو توضأ ثلاثا ثلاثا ذكر في ظاهر الرواية ما يدل على الجواز فإنه قال إذا سبقه الحدث يتوضأ ويبني من غير فصل وحكي عن أبي القاسم الصفار أنه لا يجوز ووجهه أن الفرض يسقط بالغسل مرة واحدة فكانت الزيادة إدخال عمل لا حاجة إليه في الصلاة فيوجب فساد الصلاة .

                                                                                                                                وجه ظاهر الرواية أن الزيادة من باب إكمال الوضوء وبه حاجة إلى إقامة الصلاة على وصف الكمال وذلك بتحصيل الوضوء على وجه الكمال فتتحمل الزيادة كما يتحمل الأصل وهذا جواب أبي بكر الأعمش فإن عنده المرة الأولى هي الفرض والثانية والثالثة نفل ، فأما عند أبي بكر الإسكاف فالثلاثة كلها فرض ; لأن الثانية والثالثة لما التحقتا بالأولى صار الكل وضوءا واحدا فيصير الكل فرضا كالقيام إذا طال والقراءة أو الركوع أو السجود ، وعلى هذا إذا استوعب المسح وتمضمض واستنشق وأتى بسائر سنن الوضوء جاز له البناء ; لأن ذلك من باب إكمال الوضوء فكان من توابعه فيتحمل كما يتحمل الأصل ، ولو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث فلم يجد ماء تيمم وبنى ; لأن ابتداء الصلاة بالتيمم عند فقد الماء جائز فالبناء أولى فإن تيمم ثم وجد الماء فإن وجده بعد ما عاد إلى مقامه استقبل الصلاة وإن وجده في الطريق قبل أن يقوم مقامه فالقياس أن يستقبل ، وقيل القياس قول محمد وفي الاستحسان يتوضأ ويبني .

                                                                                                                                وجه القياس أنه متيمم وجد الماء في صلاته فتفسد صلاته كما إذا عاد إلى مكانه ثم وجد الماء وهذا ; لأن قدر ما مشى متيمما حصل فعلا غير محتاج إليه فلا يعفى .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أنه لم يؤد شيئا من الصلاة مع الحدث ولم يدخل فعلا في الصلاة هو مضاد لها فلا يفسدها ، وما مشى كل ذلك كان محتاجا إليه لتحصيل التطهير فلا يوجب فساد الصلاة بخلاف ما إذا عاد إلى مكانه ثم وجد ; لأنه إذا عاد إلى مكانه وجد أداء جزء من أجزاء الصلاة وإن قل مع التيمم فظهر بوجود الماء أنه كان محدثا من وقت الحدث السابق ، وإن التيمم ما كان طهارته فتبين أنه أدى شيئا من الصلاة مع الحدث فتفسد صلاته ، ثم ما ذكرنا من جواز البناء لا يختلف سيما إذا كان الحدث في وسط الصلاة أو في آخرها حتى لو سبقه الحدث بعد ما قعد قدر التشهد الأخير يتوضأ ويبني عندنا ; لأنه يحتاج إلى الخروج بلفظة السلام التي هي واجبة أو سنة عندنا فلا بد له من الطهارة ، وكذا لا يختلف [ ص: 223 ] الجواب في جواز البناء سيما إذا صرف وجهه عن القبلة على علم بالحدث أو على ظن به بعد أن كان في المسجد في ظاهر الرواية حتى إنه لو صرف وجهه عن القبلة على ظن أنه أحدث ثم علم أنه لم يحدث وهو في المسجد رجع وبنى فإن علم بعد الخروج من المسجد لا يبني .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه لا يبني في الوجهين جميعا ، ووجهه أنه صرف وجهه عن القبلة من غير عذر فتفسد صلاته كما إذا علم خارج المسجد وكما إذا انصرف على ظن أنه على غير وضوء أو على ظن أنه على ثوبه نجاسة أو كان متيمما فرأى سرابا فظنه ماء فانصرف فإنه لا يبني سواء كان في المسجد أو خارج المسجد .

                                                                                                                                وجه ظاهر الرواية أن حكم المكان لم يتبدل ما دام في المسجد والانصراف لم يكن على قصد الخروج من الصلاة وعزم الرفض بل لإصلاح صلاته ألا ترى أنه لو تحقق ما توهم توضأ وبنى على صلاته فسقط حكم هذا الانصراف فكأنه لم ينصرف بخلاف ما إذا خرج من المسجد ثم علم ; لأن حكم المكان قد تبدل وبخلاف تلك الصلاة ; لأن هناك الانصراف ليس لإصلاح صلاته بل لقصد الخروج عن الصلاة وعزم الرفض ألا ترى أنه لو تحقق ما توهم لا يمكنه البناء فأشبه الكلام والحدث العمد والقهقهة ، وعلى هذا إذا سلم على رأس الركعتين في ذوات الأربع ساهيا على ظن أنه أتم الصلاة ثم تذكر فحكمه وحكم الذي ظن أنه أحدث سواء على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا ، وذكر في العيون أنه إذا صلى العشاء فظن بعد ركعتين أنها ترويحة فسلم أو صلى الظهر وهو يظن أنه يصلي الجمعة أو يظن أنه مسافر فسلم على رأس الركعتين أنه يستقبل العشاء والظهر ، وقد مر الفرق هذا إذا كان يصلي في المسجد فأما إذا كان يصلي في الصحراء فإن كان يصلي بجماعة يعطى لما انتهى إليه الصفوف حكم المسجد إن مشى يمنة أو يسرة أو خلفا ، وإن مشى أمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة فقد ذكرنا اختلاف المشايخ والصحيح هو التقدير بموضع السجود ، وإن كان بين يديه بناء أو سترة فإنه يبني ما لم يجاوزه ; لأن السترة تجعل لما دونها حكم المسجد حتى لا يباح المرور داخل السترة ويباح خارجها ، وإن كان يصلي وحده فمسجده قدر موضع سجوده من الجوانب الأربع إلا إذا مشى أمامه وبين يديه سترة فيعطى لداخل السترة حكم المسجد ، لمن سبقه الحدث أن يتكلم ويتوضأ ويستقبل القبلة ليخرج عن عهدة الفرض بيقين .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية