الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  69 11 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا شعبة قال : حدثني أبو التياح ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث للترجمة الثانية كما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة ; الأول : محمد بن بشار - بفتح الباء الموحدة وتشديد [ ص: 46 ] الشين المعجمة - ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدي البصري ، كنيته أبو بكر ، ولقبه بندار - واشتهر به لأنه كان بندارا في الحديث ; جمع حديث بلده ، وبندار - بضم الباء الموحدة وسكون النون وبالدال المهملة وبالراء - الحافظ ، وقال أحمد : كتبت عنه نحوا من خمسين ألف حديث . روى عنه الستة وإبراهيم الحربي ، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ، وعبد الله بن محمد البغوي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ، وعنه قال : كتب عني خمسة قرون ، وسألوني الحديث وأنا ابن ثمان عشرة سنة . وقال : ولدت سنة سبع وستين ومائة . وقال البخاري : مات في رجب سنة اثنتين وخمسين - يعني ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : يحيى بن سعيد القطان الأحول .

                                                                                                                                                                                  الثالث : شعبة بن الحجاج .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو التياح - بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة ، واسمه يزيد بن حميد - بالتصغير - الضبعي من أنفسهم ، سمع أنسا وعمران بن حصين من الصحابة وخلقا من التابعين ومن بعدهم ، قال أحمد : هو ثقة ثبت . وقال علي بن المديني : هو معروف ثقة . مات سنة ثمان وعشرين ومائة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  بيان الأنساب : العبدي نسبة إلى عبد بن نصر بن كلاب بن مرة في قريش ، وفي ربيعة بن نزار عبد القيس بن أفصى ، وفي تميم عبد الله بن دارم ، وفي خولان عبد الله بن جبار ، وفي همدان عبد بن غيلان بن أرحب .

                                                                                                                                                                                  الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة ، نسبة إلى ضبيعة بن زيد بن مالك في الأنصار ، وفي ربيعة بن نزار ضبيعة بن ربيعة بن نزار ، وفي بني ثعلبة ضبيعة بن قيس .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم بصريون ، ومنها أنهم أئمة أجلاء .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن آدم عن شعبة به . ورواه مسلم في المغازي عن عبد الله بن معاذ عن أبيه ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد بن سعيد ، وعن محمد بن الوليد عن غندر - كلهم عن شعبة به ، فوقع للبخاري عاليا رباعيا من طريق آدم ، وآدم ممن انفرد به البخاري عن مسلم . وأخرجه النسائي في العلم عن بندار به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " يسروا " أمر من يسر ييسر تيسيرا ، من اليسر وهو نقيض العسر .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولا تعسروا " من عسر تعسيرا ، يقال عسرت الغريم أعسره عسرا إذا طلبت منه الدين على عسرته . وقال ابن طريف : هذا مما جاء على فعل وأفعل ، كعسرتك عسرا وأعسرتك إذا طلبت منك الدين على عسرة ، وعسر الشيء وعسر - بضم السين وكسرها - عسرا وعسارة ، وعسر الرجل قل سماحه وضاق خلقه ، وأعسر الرجل افتقر ، وفي العباب : قد عسر الأمر - بالضم - عسرا فهو عسر وعسير ، وعسر عليه الأمر - بالكسر - يعسر عسرا - بالتحريك - أي التاث ، فهو عسر . ويقال : عسرت الناقة بذنبها تعسر عسرا وعسرانا - مثال ضرب يضرب ضربا وضربانا - إذا شالت به ، وعسرت المرأة إذا عسر ولادها ، وعسرني فلان إذا جاء على يساري . والمعسور ضد الميسور ، والمعسرة ضد الميسرة ; وهما مصدران ، وقال سيبويه : هما صفتان . والعسرى نقيض اليسرى .

                                                                                                                                                                                  قوله " وبشروا " من البشارة وهي الإخبار بالخير ، وهي نقيض النذارة وهي الإخبار بالشر ، يقال : بشرت الرجل أبشره - بالضم - بشرا وبشورا ، من البشرة ، وكذلك الإبشار والتبشير ، يقال : أبشر وبشر ، قال الله تعالى : وأبشروا بالجنة وبشر الذين آمنوا ذلك الذي يبشر - ثلاث لغات في القرآن : أبشر ، وبشروا ، وبشر بالتخفيف . والاسم البشارة ، والبشارة بالكسر والضم ، تقول بشرته بمولود وأبشرتك بالخير وبشرتك . وقال الصغاني : البشارة بالكسر والضم ; أي حق ما يعطى على التبشير . وقال اللحياني رحمه الله تعالى : البشارة ما بشرت من بطن الأديم . وقال ابن الأعرابي : البشارة والقشارة والخسارة إسقاط الناس ، وبشرت بكذا - بكسر الشين - أبشر أي استبشرت .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولا تنفروا " من نفر - بالتشديد - تنفيرا ، وقد مر الكلام فيه عن قريب .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " يسروا " جملة من الفعل والفاعل مقول القول .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولا تعسروا " عطف على " يسروا " ، ويجوز عطف النهي على الأمر كما بالعكس ، والخلاف في عطف الخبر على الإنشاء وبالعكس كما عرف في موضعه ، وكذا الكلام في قوله " بشروا ولا تنفروا " .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " يسروا " أمر بالتيسير ، لا يقال الأمر بالشيء نهي عن ضده ، فما الفائدة في قوله " ولا تعسروا " لأنا نقول لا نسلم ذلك ، ولئن سلمنا فالغرض التصريح بما لزم ضمنا للتأكيد ، ويقال : لو اقتصر على [ ص: 47 ] قوله " يسروا " ، وهو نكرة لصدق ذلك على من يسر مرة وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال " ولا تعسروا " انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع الوجوه ، وكذلك الجواب عن قوله " ولا تنفروا " ; لا يقال كان ينبغي أن يقتصر على قوله " ولا تعسروا ولا تنفروا " لعموم النكرة في سياق النفي ، لأنه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير ولا من عدم التنفير ثبوت التيسير ، فجمع بين هذه الألفاظ لثبوت هذه المعاني لأن هذا المحل يقتضي الإسهاب وكثرة الألفاظ لا الاختصار لشبهه بالوعظ ، والمعنى : وبشروا الناس أو المؤمنين بفضل الله تعالى وثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته - وكذا المعنى في قوله " ولا تنفروا " ; يعني بذكر التخويف وأنواع الوعيد ، فيتألف من قرب إسلامه بترك التشديد عليهم ، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ وتاب من المعاصي ; يتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلا قليلا كما كانت أمور الإسلام على التدريج في التكليف شيئا بعد شيء ، لأنه متى يسر على الداخل في الطاعة المريد للدخول فيها سهلت عليه وتزايد فيها غالبا ، ومتى عسر عليه أوشك أن لا يدخل فيها وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو لا يستحملها .

                                                                                                                                                                                  وفيه الأمر للولاة بالرفق ، وهذا الحديث من جوامع الكلم لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة ; لأن الدنيا دار الأعمال والآخرة دار الجزاء ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالخير والإخبار بالسرور تحقيقا لكونه رحمة للعالمين في الدارين .

                                                                                                                                                                                  بيان البديع : اعلم أن بين " يسروا " وبين " بشروا " جناسا خطيا ، والجناس بين اللفظين تشابههما في اللفظ ، وهذا من الجناس التام المتشابه ، وهذا باب من أنواع البديع الذي يزيد في كلام البليغ حسنا وطلاوة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : كان المناسب أن يقال بدل " ولا تنفروا " ولا تنذروا ; لأن الإنذار هو نقيض التبشير لا التنفير ! قلت : المقصود من الإنذار التنفير ، فصرح بما هو المقصود منه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية