الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2111 2224 - حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، سمعت سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قاتل الله يهودا ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها ، وأكلوا أثمانها" . [قال أبو عبد الله : قاتلهم الله [التوبة : 30] : لعنهم قتل [الذاريات : 10] : لعن الخراصون : الكذابون] . [مسلم : 1583 - فتح : 4 \ 414]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم أسند حديث ابن عباس بلغ عمر أن فلانا باع خمرا ، فقال : قاتل الله فلانا ، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ؟ " .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "قاتل الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها ، وأكلوا أثمانها" .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              تعليق جابر أخرجاه ، وهو المذكور قبله ، ولفظه : "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 558 ] وذكره ابن أبي حاتم في "علله" من حديث عبد الله بن عمرو ، وتوقف فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عباس أخرجه مسلم أيضا ، وسمى المبهم فقال : بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال : قاتل الله سمرة ، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال المحب في "أحكامه" أنه جابر بن سمرة ، وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضا . وقال البخاري في أخبار بني إسرائيل ، رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأراد هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وأخرج أبو داود حديث ابن عباس . وفيه : "إن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" . وأجاب الخطابي عن فعل سمرة بن جندب نقلا أنه لم يبعها بعينها ، وإنما خللها متأولا ثم باعها . وإلا فلا يخفى عليه ذلك ، وكان واليا على البصرة ، أو يحمل على أنه باع العصير ممن يتخذه خمرا لكنه حرام ، وجواب ثالث : وهو أنه كان يأخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية فيبيعها منهم ظنا منه جوازه . قاله ابن الجوزي نقلا عن ابن ناصر ، وكان ينبغي له أن يوليهم بيعها ، وذكر الإسماعيلي والحافظ أبو بكر في "مدخله" : أنه يجوز أن يكون لم [ ص: 559 ] يعلم تحريم بيعها ، ولو لم يكن كذلك لما أقره عمر على عمله ، ولعزله ولا رضي هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وقام الإجماع على تحريم بيع الميتة لتحريم الله تعالى بقوله : حرمت عليكم الميتة [المائدة : 3] الآية .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : ما وجه قوله : ("فباعوها ، فأكلوا أثمانها") مع أشياء كثيرة حرم أكلها دون بيعها ، كالحمر الأهلية ، وسباع الطير كالبزاة والعقبان وأشباهها ؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وجهه : أن الشحوم لما كانت محرمة عليهم كان من حقهم اجتناب بيعها كالخمر وشبهه .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء في جواز بيع العذرة والسرقين ، فكره مالك والكوفيون بيع العذرة ، وقالوا : لا خير في الانتفاع بها ، وأجاز الكوفيون بيع السرقين ، وزبل الدواب عند مالك نجس فينبغي أن يكون كالعذرة ، وأما بعر الإبل وخثاء البقر فلا بأس ببيعه عند مالك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : لا يجوز بيع العذرة ولا الروث ولا شيء من الأنجاس ، وشرط المبيع أن يكون طاهرا ، وانتفاع الناس بالسرقين ، وإن كان نجسا في الزراعة لا بأس به ، وكذا خلطهم إياه بالطين ، والبناء للفخار ولوقود النيران ، ولا يدل على الملكية ولا الضمان عند الاستهلاك ، خلافا لمن خالف .

                                                                                                                                                                                                                              وفي سماع ابن القاسم : أنه سئل عن قوم لهم خربة يرمي الناس فيها الزبل ، فأرادوا ضربه طوبا وبيعه ; ليعمروا به تلك الأرض ، قال : ذلك لهم ، وهذا على قاعدتهم .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى : "جملوه" أذابوه ، جملت الشيء ، أجمله جملا ، وأجملته واجتملته : أذبته ، والجميل : الودك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 560 ] قال الداودي : ومنه سمي الجمال ; لأنه يكون عن الشحم ، وليس ببين لأنه قد يكون مع الهزال ، واستدل به أصحاب مالك على سد الذرائع ; لأن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل ، وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه ، لكنه لما كان سببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم ، ولهذا قال الخطابي : في هذا الحديث إبطال الحيل والوسائل التي يتوسل بها إلى المحظورات ; ليعلم أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه ، وهو حجة على ابن وهب وأبي حنيفة فيما مضى من إجازتهما بيع الزيت النجس .

                                                                                                                                                                                                                              واعترض بعض الملاحدة على كون الشيء حراما ويحل بيعه بما إذا ورث أمة وطئها أبوه ، فإنه يحرم على الابن وطؤها ، ويحل بيعها إجماعا وأكل ثمنها ، وهذا تمويه ; لأن الابن لا يحرم عليه منها غير الاستمتاع ، وهي مباحة للغير بخلاف الشحم ، فإن ما عدا الأكل تابع له بخلافها ، وفي عموم تحريم الميتة بيع جثة الكافر .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن هشام وغيره : أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم الخندق فبذل الكفار في جسده لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف درهم ، فلم يأخذها ودفعها إليهم وقال : "لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 561 ] وقوله : (قاتل الله فلانا) كلمة ليست على الحقيقة ، وهي : كلمة تجري على ألسنتهم من غير قصد حقيقتها ، وقالها زجرا له ، وعلم عمر أنه يكفيه ذلك فلم يأمره .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : إقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("قاتل الله اليهود") فسره أبو عبد الله في رواية أبي ذر باللعنة ، وهو قول ابن عباس ، وقال الهروي : معناه : قتلهم الله ، وحكي عن بعضهم : عاداهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : صار عدو الله فوجب قتله وسبيل فاعل أن يكون من اثنين ، ولا يكون من واحد مثل : سافرت و (طارقت) .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية