الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا وجد بعيرا في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل ذلك فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { : إن وجدته قبل القسمة فهو لك وإن وجدته بعد القسمة أخذته بالثمن إن شئت } وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين أحرزوا ناقة لرجل من المسلمين بدارهم فاشتراها رجل منهم وأخرجها فخاصم فيها مالكها فقال صلى الله عليه وسلم { : إن شئت أخذتها بالثمن } وفي الحديثين حجة لنا أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالإحراز لأنهم لو لم يملكوا لرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على المالك مجانا بكل حال فإن المسلمين إنما يملكون على الكفار مالهم لا مال المسلم وكذلك المشتري إنما يملك على البائع ماله إلا أنه جعل له حق الأخذ قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة لأن المستولى عليه صار مظلوما وعلى من يذب عن دار الإسلام القيام بنصرته ودفع الظلم عنه وذلك بإعادة ماله إليه ، وقبل القسمة لم يتعين الملك فيه لأحد بل هو باق على حق الغزاة فكان عليهم الرد ليندفع به الظلم عن صاحبه وبعد القسمة قد تعين الملك لمن وقع في [ ص: 15 ] سهمه وعليه دفع الظلم عنه ولكن ليس له أن يحول ملكه وحقه إليه إلا أن حقه في المالية فلمراعاة النظر من الجانبين قلنا : تعاد إليه العين بالقيمة ليصل المستولي عليه إلى عين ماله ويصل الآخر إلى حقه في المالية ودليل أن حقه في المالية أن للإمام بيع الغنائم وقسمتها بين الغانمين .

ومراده بالثمن القيمة فالقيمة ثمن التعديل والمسمى ثمن التراضي ولهذا مكنه من الأخذ من المشتري بالثمن لأن حق المشتري فيما أعطى من ماله وهو الثمن فينظر له في ذلك كما ينظر للمستولي عليه في إعادة ماله إليه وعن الشعبي رحمه الله تعالى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل أهل السواد ذمة المراد سواد العراق وفيه دليل على أن الإمام إذا فتح بلدة عنوة وقهرا فله أن يجعل أهلها ذمة ويضع الجزية على جماجمهم والخراج على أراضيهم كما فعله عمر رضي الله تعالى عنه فإنه افتتح السواد عنوة وقهرا وذلك مشهور في كتب المغازي وفيه أشعار وقد كان صاحب جيش العجم رستم بن فرخ هرمزان وقتل في الحرب وأنشد الأعرابي الذي قتله فقال

ألم تر أني حميت الذمار وأبقيت مكرمة في الأمم     غداة الهزيمة إذ رستم
يسوق الفوارس سوق النعم     رماني بسهم وقد نلته
فصك الركاب ببطن القدم     وأضرب بالسيف يافوخه
فكانت لعمري فتح العجم

وقد كان صاحب جيش المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان قد خرج به دماميل فلم يحضر الحرب يوم الفتح وفي ذلك يقول قائلهم

: ألم تر أن الله أنزل نصره      وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة     ونسوة سعد ليس فيهن أيم

وإنما بينا هذا لأن بعض أصحاب الشافعي رحمهم الله ينكرون فتح السواد عنوة .

وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه : لا أدري ماذا أقول في سواد الكوفة ولكني أقول قولا بظن مقرون إلى علم وهذا جهل وتناقض من قائله فإن الظن أن يترجح أحد الجانبين من غير دليل فكيف يكون علما وفتح السواد عنوة وقهرا أشهر من أن يخفى على أحد حتى يحتاج إلى هذا التكلف وربما يقول الشافعي رحمه الله : إن عمر رضي الله عنه ملك الأراضي للمسلمين واسترقهم ثم تركهم ليعملوا في أراضي المسلمين وما جعل عليهم من الخراج والجزية بمنزلة [ ص: 16 ] الضريبة كالمولى يساوي عبده الضريبة ويستعمله وربما يقول من عليهم برقابهم وتملك الأراضي ثم أجرها منهم والخراج الذي جعل عليهم أجرة وهذا بعيد فإن جزيتهم أشهر من أن تخفى وقد كانوا يتبايعون ذلك فيما بينهم ويتوارثونه من ذلك الوقت إلى يومنا هذا فعرفنا أن الصحيح ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى أنه من عليهم برقابهم وأرضهم وجعل عليهم الجزية في رءوسهم والخراج في أرضهم وإنما فعل ذلك بعد ما شاور الصحابة رضي الله عنهم على ما روي أنه استشارهم مرارا ثم جمعهم فقال : أما إني تلوت آية من كتاب الله تعالى واستغنيت بها عنكم ثم تلا قوله تعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } إلى قوله تعالى { للفقراء المهاجرين } إلى قوله تعالى { والذين تبوءوا الدار } هكذا في قراءة عمر رضي الله عنه إلى قوله تعالى { والذين جاءوا من بعدهم } ثم قال أرى لمن بعدكم في هذا الفيء نصيبا ولو قسمتها بينكم لم يكن لمن بعدكم نصيب فمن بها عليهم وجعل الجزية على رءوسهم والخراج على أراضيهم ليكون ذلك لهم ولمن يأتي بعدهم من المسلمين ولم يخالفه في ذلك إلا نفر يسير منهم بلال رضي الله عنه ولم يحمدوا على خلافه حتى دعا عليهم على المنبر فقال : اللهم اكفني بلالا وأصحابه فما حال الحول وفيهم عين تطرف أي ماتوا جميعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية